السفير – ملاك عقيل
لم تدخل كاميرا واحدة الى الرابية في أيام الوداع الأخيرة.
بقرار من ميشال عون «سيّجت» حميمية اللحظة والدموع والعَبرات المحبوسة بأسوار من التعتيم.. لكن ليس بعد الآن. من ساحة النجمة، حيث تأخرت ولادة الرئيس ساعة كاملة، الى قصر بعبدا، ولستّ سنوات من الآن. ميشال عون تحت مجهر على الأرجح لن يرحم.
«السيّدة الاولى»، الستّ ناديا، ليست متآلفة مع الأضواء ولا مع إغراءات صناعة الـ «image»، وهي غير متصالحة مع «موضة» زوجات السياسيين في حبّ المظاهر وفنّ توسيع دائرة الممالقين. حتّى في عزّ العودة في عام 2005، كان «الجنرال» في قلب الصورة.. وهي في العتمة تماماً. بقيت كذلك الى أن أتى أوان الرئاسة.
اختارت اللون الأزرق الفاتح لأول يوم من أيام العهد العوني. سبقت «الجنرال»، الذي صار رئيسا، مع العائلة الى مدخل القصر الجمهوري وانتظروه وهو يجتاز السجادة الحمراء برشاقة غير معهودة.
الستّ ناديا قليلة الكلام، حادّة الذكاء، وصاحبة تأثير يصعب حجبه على من «دوّخ» جمهورية ما بعد الطائف وشغل بالها لأكثر من عقدين من الزمن. اجتماعياتها قليلة. العائلة تأتي أولا في سلّم أولوياتها وتجهد قدر المستطاع لإبعاد التأثيرات السياسية السلبية عليها.
مثلها، لم يشأ ميشال عون أن تعكّر عليه الاضواء صفاء الانتقال من «دويلة الرابية» الى «دولة بعبدا». حتى في يوم «الإثنين العظيم» لم يغيّر في «أجندة» عاداته.
استيقظ باكراً جداً، تناول آخر «ترويقة» كمرشّح رئاسي، تنزّه في الحديقة ببدلته الرياضية. اجتمع مع عدد قليل من مساعديه وتابع مقتطفات من النقل المباشر. البزة الرسمية جاهزة أصلاً مع كل «أكسسوار» اللحظة. ناديا كظلّه لم تفارقه سوى في «الرحلة» الى بعبدا. الاثنان جاهزان لدخول القصر..
«ابن النظام»، كما وصفه يوماً نبيه بري «مُفتياً» بأنه لن يفرّط به، صار من أصحاب الفخامة. من أجله أعيد إحياء «طقوس» الرئاسة. سيصبح مسلّماً به أن تطغى صورة القادم الى بعبدا على البروتوكول نفسه والتشريفات، فقط لأنه ميشال عون وليس أي رئيس آخر.
هنا، في القصر، لا دبابات ولا طيران سورياً. لا ركام ولا وصايات. ولا حتى «رائحة» تسوية باهظة أوصلت «الجنرال» الى كرسيّ الموارنة الأول.
كل شيء نظيف ومرتّب ومتقن. حتى لطافة أهل القصر وموظفيه زائدة عن حدّها. لا طيف للضابط طلال الفضلي «المندوب السامي» من قبل السفارة المصرية الذي كان يتدخّل في كل شاردة وواردة في القصر في أول أيام ميشال سليمان.
الشاب الشيوعي فرنسوا حلال، ربما، يتابع من مكان ما وقائع تتويج رئيس «جاهد» في يوم تشريني محاولاً اغتياله بقرار من قيادته التي استقبلت جبران باسيل عشية التتويج في الوتوات. لو نجح حلال، أو غيره في تنفيذ الاغتيال «السياسي» أو «الأمني»، لما كان المُزعج، المقلِق، المشاغب، المجنون، يقوم بما يقوم به عادة أي رئيس منتخب.
هنا تسمع نكتة طريفة. متى سينزع ميشال عون لوحة «إعلان بعبدا»، لا هل سينزعها؟ سيترك لبيار رفول أن يتولّى المهمة أو يأخذها على عاتقه!
الرئيس المؤجّل انتخابه منذ 26 عاما لن يطيق كل ما لا يتناسب مع جدول أعمال الرئاسة المثقلة بالمهامّ الصعبة.
بالتأكيد، مع دخوله بهو القصر الفسيح لم ينتبه للّوحة «الذهبية» الشهيرة. لم يتعاط يوماً مع ميشال سليمان كرئيس حقيقي للجمهورية فكيف له أن يرث «إنجازاته» ويلتزم بها. مع ذلك، كان التركيز في مكان آخر تماماً. فالأمر تفصيلي أمام المشهد العام.
أخيرا… ميشال عون في قصر بعبدا يجلس على كرسيّ الرئاسة الأولى بعد «جهاد» كبير فرضته غارة جوية وحسابات إقليمية دولية، وانتهى بدفع المتلاعبين بأعصابه يصوّتون له «وقوفا» في مجلس النواب بعد أن استمعوا الى اسمه يتكرّر 163 مرّة. وكأن السحر انقلب على الساحر!
يعرف ميشال عون القصر زاوية زاوية، لكنه سيفاجأ بكل التغييرات التي طالت الديكور والمفروشات والخدمات الخاصة والمستحدثة التي لم تكن متوافرة إبّان وجوده في بعبدا. هنا، قضى أكثر من عامين رئيساً لحكومة عسكرية، ثم عاد ليمكث ستّ سنوات من عمر عهد بدأ لتوّه بـ «الحرتقات» الصبيانية.
جلس على الكرسيّ وعلامات التأثر بادية على وجهه تماماً كما حين وقف مستمعاً للنشيد الوطني. خلفه العلم اللبناني وتمثال روماني ضخم بلا رأس من «هدايا» إميل لحود للقصر. أنجز ما عليه من واجبات بروتوكولية محاطاً معنوياً بالعائلة من كبيرها الى صغيرها استعداداً لماراتون الرئاسة الطويل.
في باحة القصر الخارجية قرب النافورة، «شباب المرافقة»، الذين تعوّدوا على حمايته منذ 11 عاماً، منتشرون كالفطر بلباسهم الأسود و «الرينجر» البيج. في الداخل لا عمل لهم. هل انتهت مهمّتهم هنا بعد أن أصبح أمن الرئيس في عهدة الحرس الجمهوري؟ لا يبدو هؤلاء كمن «يعتل همّ» الآتي. أحدهم يصرخ برفيقه الملتحي «تعال. لا بد أن نتمكّن من التقاط صورة تذكارية مع فخامة الرئيس».