كتبت صحيفة “الجمهورية”: كل المنطقة تهتزّ وتوشِك أن تزحل من مكانها، بفِعل بركان الحرب الواسعة التي تتهدّدها. وصواعق تمدّدها من قطاع غزة الى لبنان تتراكم بشكل مخيف، والتهديدات الاسرائيلية المتتالية تعكس بشكل لا يرقى اليه الشك بأنّ العقل الحربي الحاكم في اسرائيل بات يتحيّن الفرصة لكبس زر التفجير الواسع في ايّ لحظة، فيما الداخل اللبناني الذي يغلي بالقلق محكوم بمكوّنات من الوزن الخفيف؛ أداؤها مسخرة، وهمّها الوحيد الاستعراض الهزلي والتهريج الأهبل، وتلويث البلد بنشر غسيلها الوسخ.
جلسة درس وإقرار موازنة العام 2024 التي عقدها المجلس النيابي بجولتَيها النهارية والمسائية برئاسة رئيس المجلس نبيه بري، أمس، كان يمكن لها ان تشكّل فرصة لنقاش عاقل، يُقارب ازمة لبنان بأبعادها السياسية والمالية والاقتصادية والاجتماعية بمسؤولية وعقلانية، وكذلك أزمته الوجودية ومصيره الجاثم فوق برميل بارود مفخّخ على امتداد الحدود الجنوبية، بإدراك حجم الخطر، وأنّ أقل الواجبات الوطنية كسر اصطفافات الشرذمة والتمزيق، وتنادي المكوّنات السياسيّة على اختلافها، إلى البحث الصّادق والمسؤول عمّا يمكن أن يُنجّي البلد ويوفّر له، ولو الحد الادنى من المناعة الداخلية في وجه العواصف الحربية التي تتكوّن غيومها السوداء في أفق المنطقة. ولكن ثبت للقاصي والداني أنّ هذا البلد مصاب بمرض مُستعص اسمه الانقسام والغربة عن لبنان، وموبوء بطارئين على العمل السياسي والنيابي شعارهم الوحيد: أنا أزايد… إذاً أنا موجود!
جلسة القلوب المليانة
الجلسة من بدايتها، تحدّدت هويتها كجلسة قلوب مليانة، حيث توتّرت من لحظة افتتاحها صباحاً، ودخلت في إشكال فوري تجلّى بعد إصرار النائب ملحم خلف على الكلام بالنظام، فيما أكد بري اعطاءه الكلام بعد تلاوة تقرير لجنة المال والموازنة، حول مشروع الموازنة، تخلله سجال أصَرّ فيه خلف على عدم دستورية الجلسة، ما دفع بالرئيس بري الى مخاطبته قائلاً: “لن أجعل منك بطلا وأخرجك من القاعة”. وتبعَ ذلك هرج ومرج بعدما دخل بعض نوّاب التغيير على خط السجال، وتعالى الصراخ، وكان لافتاً خلاله الهجوم العنيف للنائب علي حسن خليل على نواب التغيير المشاركين في السجال ووصفهم بـ”قرطة مافيات”. واللافت ايضاً أن هذا السجال الذي انتهى على توتر في الهيئة العامة، استكمل بشكل عنيف وواسع وبتعابير ما فوق القدح والذم على مواقع التواصل الاجتماعي.
ترقّب الخماسية
نقاشات الأمس، التي تقاطعت جميعها على التهشيم بمشروع الموازنة، واعتبارها قاصرة لا ترقى الى مستوى الازمة التي يتخبط فيها البلد مالياً واقتصادياً واجتماعياً، اجتَرّت في الجانب الآخر السجالات والانقسامات الداخلية والعناوين الخلافيّة ذاتها والفوارق العميقة حول كلّ الملفات، بما يسقط الرهان على أيّ احتمال لالتقاء مكونات الداخل في مساحة مشتركة، حول الاساسي او الثانوي من تلك الملفات. لتوجّه من خلال ذلك، رسالة مُحبطة لجهود الوسطاء، ولا سيما المسعى المتجدد الذي بدأته اللجنة الخماسية، بهدف المساعدة على حسم الاستحقاق الرئاسي والتعجيل في انتخاب رئيس للجمهورية.
ولكن، بمعزل عن هذه الصورة الانقسامية التي تعبّر بوضوح عن تصادم التوجهات الداخلية، فإنّ معلومات “الجمهورية” من مصادر موثوقة تؤكّد أنّ “الخماسية” ماضية في بناء أسس لما سمّتها المصادر “مبادرة جديدة” ستطرحها في وقت قريب”.
وأكدت مصادر المعلومات انّ السفيرة الاميركية الجديدة ليزا جونسون وكذلك الفرنسية هيرفيه ماغرو على خط المشاورات المكثفة في غير اتجاه، فيما أعادت قطر تزخيم حركة وساطتها في بيروت، وكشفت عن لقاء لسفراء دول “الخماسية” في لبنان خلال الساعات المقبلة، مع ترجيح انعقاده في دارة السفير السعودي في لبنان وليد البخاري في اليرزة، وسيكون مُكمّلاً للحراك الديبلوماسي العلني الذي تجلّى في زيارتَي السفير السعودي وكذلك المصري علاء موسى لرئيس مجلس النواب نبيه بري.
وإذا كانت زيارتا السفيرين السعودي والمصري الى عين التينة قد أكدتا على توجّه “الخماسية” الفاعل هذه المرة للدفع بالاستحقاق الرئاسي الى الامام، فإنّ الترقب يبقى سيد الموقف لما يمكن أن يتمخّض عنه الاجتماع المنتظر للجنة، وبحسب معلومات مصادر مواكبة لمسعى “الخماسية” لـ”الجمهورية” فإنّ هذا اللقاء مرجّح انعقاده في العاصمة الفرنسية، تليه زيارة لموفد اللجنة جان إيف لودريان إلى بيروت في اواسط النصف الاول من شباط المقبل، حاملاً معه أفكاراً جديدة لدفع اللبنانيين الى التوافق على رئيس”.
لا فرض للخيارات
واذا كانت محادثات السفيرين السعودي والمصري في عين التينة قد كشفت عن انّ اللجنة الخماسية في مهمتها الجديدة لن تدخل في لعبة الاسماء، او ما يسمّى الخيار الأول او الثاني او الثالث، او تزكّي مرشحين معينين لرئاسة الجمهورية، بل انّ قاعدة عملها ترتكز على محاولة تظهير المواصفات التي ينبغي أن يتحلى بها رئيس الجمهورية، ومن ثم البناء على ذلك في حركة الاتصالات والمشاورات التي ستحصل مع الاطراف في لبنان لبناء أرضية للتوافق فيما بينهم، فإنّ مصادر ديبلوماسية على صلة بحراك “الخماسية” أوضحت لـ”الجمهورية” أنّ اللجنة في مهمتها الجديدة ليست معنية بفرض خيارات رئاسية على اللبنانيين، بل تتحرّك من موقعها كعاملٍ مساعد للسياسيين في لبنان على اختيار رئيس للجمهورية. ما يعني ان الكلمة الاخيرة لهم. وضمن هذا السياق تندرج مهمة لودريان المقبلة”.
وكشف ديبلوماسي عربي لـ”الجمهورية” ان “فكرة إجراء حوار بين اللبنانيين متداولة داخل “اللجنة الخماسية”، سواء في بيروت او في واحدة من عواصم دول الخماسية، مشيراً الى أنّ قطر قد لا تمانع في استضافة حوار رئاسي لبناني، الا أنّ هذه الفكرة ليست ناضجة حتى الآن، لا سيما أنّ بعض أعضاء “الخماسية” يتحدّثون صراحة عن أولوية مواكبة الدول لتطورات المنطقة وتداعيات الحرب الاسرائيلية على قطاع غزة، ويفضّلون إن توافقَ اللبنانيون على إجراء حوار فيما بينهم، أن يحصل هذا الحوار في بيروت بمواكبة مباشرة من اللجنة الخماسية”.
الميدان الحربي
ميدانياً، تواصلت الاعتداءات الاسرائيلية بالقصف الجوي والمدفعي على مختلف البلدات الجنوبية، حيث شَن العدو غارات جوية مكثفة على يارون واطرافها، فيما استهدف بالمدفعية الثقيلة غابة الصنوبر بين الفرديس وراشيا الفخار وخراج الهبارية، اللبونة واطراف كفركلا. وفي المقابل واصل “حزب الله” عملياته ضد المواقع العسكرية الاسرائيلية وأعلن عن استهداف موقع السماقة وموقع بياض بليدا.
الموقف الرسمي
الى ذلك، قال رئيس حكومة تصريف الاعمال نجيب ميقاتي لرئيس الوزراء الايطالي تاياني، الذي استقبله في السرايا الحكومية امس، انّ لبنان يؤيد الحل السلمي في المنطقة، ومع تنفيذ القرارات الدولية بحرفيتها خاصة القرار 1701. وتزامنَ ذلك مع كلمة لبنان امام مجلس الامن الدولي التي ألقاها وزير الخارجية في حكومة تصريف الاعمال عبدالله بوحبيب في الاجتماع الذي عقده المجلس على المستوى الوزاري حول الوضع في الشرق الاوسط، حيث اكد “سعي لبنان لمنع وقوع الحرب التي تريدها اسرائيل”، وقال: انّ قرارنا، وانّ رؤيتنا من اجل تحقيق الامن والاستقرار المُستدام في جنوب لبنان يقومان على التطبيق الشامل والكامل للقرار ١٧٠١، ووقف الخروقات الاسرائيلية، ودعم الامم المتحدة والدول الصديقة الحكومة اللبنانية في بسط سلطتها على كامل الاراضي اللبنانية، وتسهيل العودة الآمنة والكريمة للنازحين من المناطق الحدودية التي نزحوا منها بعد ٧ تشرين الاول ٢٠٢٣”.
تهديدات
وفي موازاة ذلك، توالت التهديدات الاسرائيلية، وآخرها على لسان وزير الخارجية الاسرائيلية يسرائيل كاتس الذي قال في تصريح: “اذا لم يتراجع “حزب الله” فسيدفع لبنان الثمن ولن نتردد في العمل ضد ايران ووكلائها”. ونقلت القناة 12 الاسرائيلية عن زعيم المعارضة الإسرائيلية يائير لابيد قوله: “كيف وصلنا إلى وضع يتمّ فيه إجلاء مئات الآلاف من الإسرائيليين من منازلهم ولا أحد لديه إجابة متى سيعودون؟”.
واعتبرت صحيفة “وول ستريت جورنال” الأميركيّة انّ “الإشتباكات القائمة على الحدود شمال اسرائيل أدّت إلى تحويل مئة وعشرين ألفاً من سكان هذه المنطقة إلى نازحين، وتحوُّلِ المدن الشمالية إلى مدن أشباح”.
ونقلت الصحيفة عن ضباط اسرائيليين في المناطق الحدودية قولهم: “نحن عادةً قوة هجومية تأخذ زمام المبادرة، غير أنّ الدفاع لأكثر من مئة يوم عملية صعبة للغاية”.
ووفق الصحيفة فإنّ “حزب الله” يمتلك ترسانة من الصواريخ يصل عددها إلى 150 ألف صاروخ يمكنها الوصول إلى أي مدينة في إسرائيل، بما في ذلك ميناء إيلات. وإذا أطلقَ ما لديه من صواريخ، فإنه سيوقِع الكثير من الخسائر رغم قوة الانظمة الدفاعية للجيش الاسرائيلي”.
وفي سياق متصل، ذكر موقع “واللا” الاسرائيلي انه بعد الضربات من لبنان التي أصابت بنية تحتية في القاعدة الجوية في جبل ميرون شمال إسرائيل، تطرّق ضباط في الجيش الإسرائيلي الى حالة التأهب المتزايدة في هذا الجيش أمام ضربات “حزب الله” للبنية العسكرية لسلاح الجو الإسرائيلي في المنطقة. وقال احد الضباط: “لا يمكننا نقل الجبل، ومن جانب آخر لا يمكننا زيادة دفاعات في المنطقة لحماية النشاطات العسكرية. توجَد قيود”.
وكشف الضباط أنّ سلاح الجو الإسرائيلي قام بتحسينات على الدفاع على الجبل، والتي أثبت بأنها فعالة. وقالوا: ” حقيقة أنه لم يتم التسبّب بأضرار كبيرة ولم يصب أي جندي أمس (الاول)، هي نتيجة فعل للتفكير الصحيح والاستعداد المتجدد أمام تهديد الصواريخ المضادة للدبابات باستعداد مباشر”.
واشار الموقع الى أنّ سلاح الجو الإسرائيلي ضاعفَ الجهود لتحديد مواقع خلايا “حزب الله” جنوب لبنان في منطقة محددة يتم إطلاق الصواريخ منها”، الا انه نقل عن الضباط قولهم حول استهداف “حزب الله” لقاعدة “ميرون” الجوية امس الاول: “لا يمكن الاستخفاف بهذا الهجوم، لذلك افترض أنه أقر جباية الثمن من الجانب الآخر. ضرب هدف في الجانب الآخر وإن واصلوا إطلاق النار سيواصلون تكبّد تلقّي الضربات ببنية تحتية حيوية”.
تقويم بريطاني
بدورها، توقفت صحيفة “الغارديان” البريطانية حول ما سمّته المحور يواجه إسرائيل والولايات المتحدة، وتقوده ايران. ويضم “حزب الله” في لبنان وحركة حماس وحركة الجهاد الاسلامي في فلسطين، والحوثيين في اليمن، والحشد الشعبي في العراق، مشيرة الى انه للمرة الأولى في التاريخ يُبادر فيها تحالف من الجهات الفاعلة غير التابعة لدولة معينة إلى الدفاع بشكل جماعي عن جهة فاعلة أخرى غير تابعة لدولةٍ ما، وهي حماس على وجه التحديد.
وبحسب الصحيفة فـ”إنّ الافتراض بأنّ العمل العسكري “المستمر” ضد هذه الجهات الفاعلة سوف يكسر إرادتها في مواصلة القتال، هو افتراض مضلّل بقدر ما هو خطير. بل على العكس من ذلك، فإنّ الحلول العسكرية التي تعمل على توسيع نطاق الصراع لن تؤدي إلا إلى استجابات أكثر تنسيقاً من كل أنحاء المحور. ويحسن زعماء الغرب صنعاً عندما يفكرون في حقيقة مفادها أنهم لا يحاولون حماية طرق الشحن فحسب، بل إنهم يشنّون حرباً لا يمكن الفوز بها على تحالف متماسك إيديولوجيّاً وعنيد بين جهات فاعلة قوية غير تابعة لدول بعينها”.
وتابعت الصحيفة: “لم تؤد الضربات الأميركية والبريطانية على اليمن إلّا إلى زيادة احتمالات نشوب حرب إقليمية شاملة، بالنظر إلى أنّ الحوثيين يهددون الآن بتوسيع نطاق حملتهم لتشمل “كل المصالح الأميركية والبريطانية” في المنطقة. ومع ذلك، تظل الجبهة اللبنانية ـ الإسرائيلية هي الأكثر قابلية للاشتعال، نظراً إلى أن إسرائيل تسعى جاهدة إلى خَوض حرب مع “حزب الله”. وبما أن الأخير هو أقوى جهة غير حكومية في محور المقاومة، إن لم يكن في العالم، فإنّ مثل هذه الحرب ستكون الأكثر تدميراً للطرفين”.
وخَلصت الصحيفة الى التأكيد على أن “لا شيء أقل من وقف إطلاق النار في غزة يمكن أن يمنع المنطقة من التحوّل إلى برميل بارود”.