تستقصي هذه المقالة ثلاثة محاور ضروية للتفكير في إمكان بناء سردية مناهضة للدعاية الصهيونية المخادعة والمضللة، وهي: الدعاية الصهيونية من حيث سياقاتها ومرتكزاتها ونقاط قوتها ونقاط ضعفها؛ الدعاية العربية المضادة؛ سياق التطورات التكنولوجية والاتصالية المتسارعة، وخصوصاً مسألة الرقمنة وانعكاساتها. كما تسعى المقالة، في قسمها الأخير، لعرض الإمكانات والفرص والسبل المتاحة لبناء سردية مضادة.
الدعاية الصهيونية
تأسست الدعاية الصهيونية على”الرؤية الصهيونية التقليدية” التي عملت على تزوير الحقائق عبر كتابة التاريخ من منظور عسكري استعماري يبرر قيام الدولة اليهودية. أي أنها ترعرعت في ظل الرأسمالية الاستعمارية، واستندت إلى قوة عسكرية صوّرت نفسها لفترة طويلة على أنها القوة التي لا تُقهر. وقد استعارت هذه الدعاية كثيراً من أساليب البروباغاندا النازية والأميركية، وتفنّنت في التلفيق والتزوير والابتزاز للعالم أجمع تحت عنوان “معاداة السامية” وموازاتها بنقد إسرائيل. وبهذا، رسمت الدعاية الصهيونية صورة حضارية وديمقراطية للاحتلال، وصورة مغلوطاً فيها ومضللة عن فلسطين والعرب على اعتبار “أنهم همجيون وبرابرة لا يستحقون الحياة.” وحدث هذ بمؤازرة الأوساط الأكاديمية والإعلامية والفنية والمسلسلات التلفزيونية والأفلام الهوليوودية، الأمر الذي حدّ من هيمنة “حركة مقاطعة إسرائيل وسحب الاستثمارات منها وفرض العقوبات عليها” (BDS).
وكان من آليات ذلك أن تم العمل على تجهيل الفاعل، ونزع الأمور من سياقاتها، ومن أمثلة ذلك، جنون الصهيونيين ضد الأمين العام لمجلس الأمن الدولي أنطونيو غوتيرش حين وضع ما حدث في 7 تشرين الأول / أكتوبر في سياق الاحتلال والحصار وتداعياتهما. واشتملت تلك الآليات على: أولاً، شخصنه القضايا المعقدة، وشيطنة العدو، ومنها شيطنة الفلسطينيين ونزع صفة الآدمية عنهم وتشبيههم بـ “الحيوانات”، مثلما ورد في تصريح “وزير الحرب” الصهيوني يوآف غالانت وبعض المسؤولين الغربيين الذين اعتبروا أن تخليص العالم من العدو لا بد من أن ينتج منه بعض الخسائر في صفوف “المدنيين”؛ ثانياً، إغفال الأسباب والانشغال بالنتيجة عبر التوقف عند سؤال “كيف؟” وإغفال سؤال “لماذا؟”؛ ثالثاً، تعميم وتكريس التنميط والأحكام المسبقة، وتعميم بعض المفاهيم والتسميات التي تجرّ معها دلالات مراوغة، مثل: طرح عناوين الإرهاب والتطرف بهدف إقران حركات المقاومة في العالم بالإرهاب من ناحية، وإطلاق تسميات على جيش الاحتلال الإرهابي قاتل الأطفال والنساء على أنه “جيش الدفاع”، من ناحية أُخرى؛ رابعاً، التلاعب بالوقائع التاريخية عبر طمس بعض منها واستدعاء البعض الآخر وتوظيفه بطريقة ماكرة، ومن أمثلة ذلك: استدعاء المسؤولين الصهيونيين في أثناء الحرب على غزة، مقولات مثل المحرقة، والتي تعود إلى الحرب العالمية الثانية، وما قاله تشرشل: “يستحيل أن أفاوض النمر ورأسي بين شدقيه، أنا أعدكم بالنصر.”
وفي هذا السياق، لا بد من أن نشير إلى أن هذه الدعاية كانت تدور في فلك الدعاية الإعلامية الأميركية التي تبلورت بعد الحرب العالمية الثانية معتمدة الأساليب الناعمة والمتخفية تحت عناوين فضاضة، مثل: الرخاء والاستقلالية؛ الديمقراطية؛ الموضوعية؛ الحياد؛ حرية التعبير. وكان من اللافت كيف انكشف زيف هذه العناوين عند الضربة القوية التي تعرّض لها الكيان الصهيوني في صبيحة 7 تشرين الأول / أكتوبر 2023، وما تلاها من حرب وحشية شنّها العدو ضد أهل غزة، فقد شهد العالم كيف عملت هذه الدعاية على فبركة الأفلام المضلله، وممارسة الرقابة، ومنع الرأي المعارض، وقطع الاتصالات. وهكذا، فإن ما جرى في 7 تشرين الأول / أكتوبر 2023 من صدمة للكيان الصهيوني، وما تلا ذلك من حرب إبادة ضد سكان غزة، جعلا الأساطير التي أحاط بها الإعلاميون مهنتهم عبر التاريخ، تتهاوى.[1] فعبر التاريخ تمأسس التضليل تحت عناوين الإقناع، واستُخدمت طرق غير ديمقراطية للدفاع عن الديمقراطية، واختلطت أخلاقيات الغايات بأخلاقيات الوسائل، وصارت القضية الجيدة هي التي تقدّس الوسائل المستخدمة وتحوّلها إلى أدوات جيدة، وانعدم التفريق بين المحاججة المتمثلة في احترام الآخر، والتضليل المتمثل في حرمان المتلقي من حريته وإجباره على الأخذ برأي معين أو تبنّي سلوك معين.[2] هذه الدعاية الشبيهة بالأوركسترا التي تعلّي الصوت في ظروف وتُخفضه في ظروف أُخرى، والتي يديرها مايسترو يلبس أقنعة شفافة ناعمة، أربكها وهزّ كيانها أولئك المقاومون الخارجون من الأنفاق، وهو ما شاهدنا بداياته منذ تحرير الجنوب اللبناني في سنة 2000.
الدعاية العربية المضادة
في مقابل الدعاية الصهيونية الممنهجة والمعسكرة، ثمة دعاية عربية مضادة منهَكة، تعكس الوهن والتشتت والانقسامات والحروب والصراعات البينية عربياً وفلسطينياً، وقد زادها ضعفاً التبعية الفكرية والثقافية والإعلامية لقوى الاستعمار. فالدول العربية لم تكتفِ باستيراد التكنولوجيا الإعلامية، بل استوردت أيضاً المنطلقات المفاهيمية وآليات العمل من دون أخذ موقف منها. واتسمت هذه الدعاية بالظرفية والآنية، وترافقت مع أحداث معينة تنتهي بانتهائها، الأمر الذي جعل المجازر المتكررة التي ارتكبها الصهيونيون في حقّ الفلسطينيين والعرب عبر التاريخ تذهب إلى غياهب النسيان، بعكس استدعاء الصهيونيين للمحرقة في كل لحظة، ومع كل تفصيل. كما اتسمت هذه الدعاية بالهامشية نتيجة غياب التخطيط وانعدام الرؤيا، ولذا طغت عليها الانفعالية، واستجداء العطف والشفقة على ضحايا العدوان، بما يعكس الأوضاع السياسية السائدة على أرض الواقع، وكانت النتيجة أن تراوحت قوة وحِدّة هذه الدعاية تبعاً للأحداث التي مرت بها القضية الفلسطينية (من النكبة، ونشوء منظمة التحرير الفلسطينية، حتى تأسيس السلطة الفلسطينية، وإبادة غزة).
ولعل ما أنعش هذه الدعاية بحدود معينة هو الدور الذي أداه العديد من المؤرخين والمفكرين والأدباء والفنانين الفلسطينيين والعرب الذين أبقوا على الشعلة متقدة خلال انتفاضة الحجارة 1987. غير أن هذه الدعاية سرعان ما خبت وانكفأت مع اتفاق أوسلو في سنة 1993، ثم عادت إلى الظهور بخجل مع اندلاع انتفاضة الأقصى في سنة 2000. إلّا إن مع تراجع القوة الإسرائيلية في سنة 2000 وانسحابها من الجنوب اللبناني تحت ضربات المقاومين، بدأت تتبلور نواة لدعاية مضادة للدعاية الصهيونية، في انعكاس لموازين القوى على أرض الواقع. وقد تنامت هذه الدعاية في الحرب التي شنّتها إسرائيل على لبنان في تموز / يوليو 2006، ذلك بأن ما تكبّدته من خسائر كان السبب في تراجع الدعاية الصهيونية جرّاء الأكاذيب التي لمسها المستوطنون بأنفسهم، والصدقية التي غدا حزب الله يتمتع بها في لبنان والأراضي الفلسطينية المحتلة والعالم. وخير دليل على نمو هذه الدعاية المضادة أنه غدا لها مفرداتها وتسمياتها التي كرّستها المقاومة، مثل: “الوعد الصادق”؛ “أوهن من بيت العنكبوت”؛ “وفاء الأحرار”؛ “وهم من غبار”؛ “سيف القدس”؛ “طوفان الأقصى”؛ وغيرها كثير.
وعندما بدأت تجربة المقاومة الرائدة تنتقل إلى غزة والأراضي الفلسطينية المحتلة، وشرع المقاومون الفلسطينيون يسددون ضربات ناجحة في عمق الكيان الصهيوني، لاحظنا أن الدعاية المضادة وجدت نفسها أمام دعاية صهيونية غربية هي في طور البحث عن أساليب جديدة تمهّد لاتفاقيات التطبيع “الأبراهيمية”، وتواكب الصراعات الدولية الحادة التي تعصف بالإقليم والعالم من خلال خلق عدو بديل من الشعوب العربية متمثلاً في إيران. وقد تعاملت هذه الدعاية مع ما يجري بمستويات متباينة تتراوح بين التطرف والمغالاة في العداء للشعب الفلسطيني، وبين المرونة في النظر إلى ما يجري من أجل مداراة المطبعين والمتخاذلين من العرب والفلسطينيين، وذلك من خلال الحراك اليهودي في العالم الذي استفاق على عمق الأزمة الوجودية للكيان الصهيوني، وذهب في اتجاه إدانة عنف الطرفين، كأن هذين الطرفين يتحاربان من دون سبب ولا خلفية للصراع بينهما، الأمر الذي استدرج بعض الفضائيات العربية والمثقفين العرب وصائدي الجوائز إلى التماهي مع هذه الخدعة الجديدة.
وفي معرض المواكبة الإعلامية للحرب على غزة، برز العديد من التباينات في المواقف والطروحات الإعلامية تبعاً لخلفية كل وسيلة إعلامية، ولأغراض مَن يملكها، وأجندة مَن يديرها. وعلى الرغم من عمق التباين، يمكننا ملاحظة ما يلي:
أولاً: وقوع بعض وسائل الإعلام، ولا سيما المتلفزة، في أسر لعبة الثنائيات التي تعوق أي تطور فكري، وتولِّد عنفاً لا ينتهي، مثل: الحرب بين “حماس” وإسرائيل وتغييب فكرة الاحتلال؛ استخدام بعض الصيغ الإطلاقية والتعميمية من دون التوقف أمام تمايزات الظواهر وتعقيداتها، ولا أمام مدلولات التعبيرات المستخدمة بصددها، مثل وسم ما قامت به حماس بـ “المغامرة”، وتساؤل البعض إن كان ما حدث في 7 تشرين الأول / أكتوبر 2023 من “مغامرة” يستحق هذه الدماء، كأن التاريخ بدأ في هذا اليوم، ولاشيء كان قبله، وكأن هذه أول مرة تُزهق فيها الأرواح، وتُسفك فيها دماء الأبرياء على يد آلة الحرب الإسرائيلية.
ثانياً: إعداد بعض وسائل الإعلام تقارير مبسطة تُحمّل “أطراف الصراع” هويات موزعة بصورة إطلاقية بين الخير والشر، والتقدم والتخلف، والتطرف والاعتدال، وأن المعركة هي بين إسرائيل ومِن خلفها العالم الغربي المتقدم، و”حماس” ومِن خلفها بعض الإرهابيين والمتخلفين والفقراء. وفضلاً عن ذلك كله، ها هو الإعلام يتناول الأحداث خارج سياقاتها، فيقع في فخ تمجيد اللحظة والمباشر والآني، وينزاح عن الأسباب الحقيقية إلى ما يشبه الأسباب، ويقيس التجارب والأحداث بعضها على البعض الآخر بشكل مبسّط وآلي، مثل التعامل مع ما حدث في 7 تشرين الأول / أكتوبر 2023 كأنه وليد اللحظة، أو تشبيه “طوفان الأقصى” بأحداث 11 أيلول / سبتمبر 2001.
ثالثاً: تيئيس جميع مَن يفكر في مقاومة إسرائيل، وذلك عبر التركيز على الخراب والدمار والدماء والأشلاء، وإشاحة النظر عمّا حققه المقاومون من إنجازات ميدانية وتحرير للأطفال والنساء من الأسرى، الأمر الذي يصبّ في خدمة أهداف العدو الذي يسعى لإبادة الفلسطينيين وضربهم نفسياً، و”صهر وعيهم”، واستنزاف قدراتهم.
رابعاً: استخدام تعابير اختزالية، وعدم التمييز بين معاني العناوين المتداولة، وهو ما يدل على أزمة حادة في المصطلح الإعلامي، مثل: حل الدولتين؛ الدولة الواحدة؛ المقاومة؛ الإرهاب؛ الحصار؛ الترانسفير؛ الاستيطان؛ الدروع البشرية؛ الهدنة الإنسانية؛ الرهائن؛ المحتجزون؛ الأسرى؛ الحصار؛ الشهيد؛ القتيل؛ وغيرها.
خامساً: التعامل مع التدخلات الأجنبية ذات الطابع الكولونيالي، كأنها مجرد أعمال خيرية لا تبغي الربح، وأنها مطلوبة من أهل البلد أنفسهم، وتبرير المفاضلة بين البشر تبعاً للونهم وقوميتهم، ومن ذلك: التسليم بأهمية إخراج المحتجزين من حاملي الجنسية الأجنبية على حساب غيرهم؛ إخراج حاملي الجنسيات الأجنبية (وخصوصاً الغربية) من غزة؛ تبرير وقف إطلاق النار ووقف جحيم الحرب على الغزّيين؛ انتظار الحلول من الولايات المتحدة، وحلفاء إسرائيل المشاركين علناً في العمليات العسكرية وفي إمدادها بالأسلحة، والمتواطئين معها من الرسميات العالمية والعربية؛ الحديث عن تقرير مصير غزة ومَن سيتولى السلطة فيها “في اليوم التالي لانتهاء الحرب.”
سادساً: الاستعجال في حسم الأمور، والهرولة في تعيين الأسباب، وتوقّع النتائج من دون التعمق في تعقيدات الأحداث الجارية، وفي امتداداتها الإقليمية والعالمية، وتوقّع إمّا النصر الساحق، وإمّا الهزيمة الماحقة. ومن ذلك على سبيل المثال: المبالغات التي استبقت وأحاطت وتلت خطاب السيد حسن نصر الله في 3 تشرين الثاني / نوفمبر 2023، فقد حَسَم البعض أن إيران كونها دعمت المقاومة، فإنها ستستثمر في دماء الضحايا لتقطف الثمرة السياسية من أميركا.
سابعاً: تضخيم الخلافات الطائفية والمذهبية لدى البعض وطمسها والتغافل عنها لدى البعض الآخر، ومن ذلك: تكريس مفردات تنمّ عن فرز طائفي ومذهبي وعنصري، أي تضخيم الخلافات البينية في مقابل تحجيم الصراع العربي – الإسرائيلي، بل تغييبه وطمسه في بعض الأحيان بهدف دعم مساعي التطبيع المتدرج مع إسرائيل، وذلك على الرغم من عدم الإحجام عن استضافة مسؤولين إسرائيليين في ظل مجازر الإبادة التي تُرتكب في حقّ أهل غزة، أو الانشغال والمعركة لا تزال محتدمة بمَن سيقطف ثمارها.
ثامناً: المبالغة في المراهنة على وسائط الإعلام الجديد في تغيير الواقع السياسي والميداني، والخلط بين النشاط السياسي في فضاء الإنترنت الافتراضي، والنشاط السياسي الفعلي والمناصرة والتضامن على أرض الواقع. وقد لوحظ على المدى الطويل، كيف حرقت العناوين والملفات بعضها بعضاً، وكيف تم العمل على تفتيت المفتت، وبالتالي كانت النتيجة غرق الجميع في اللامعنى.
هذا كله يعني أن الإعلام العربي، بمختلف تبايناته ومستوياته، يجد نفسه أمام تشابك جملة من المعضلات المهنية والأمنية والاقتصادية والسياسية والأخلاقية، ومعضلات أُخرى تتعلق بالتطور التكنولوجي والاتصالي المتسارع. وفي هذا السياق، تعامل بعض وسائل الإعلام مع هذه المعضلات بخفّة وسطحية في أغلب الأحيان، إن لم نقل بخبث وتنفيذ لأجندة سياسية واضحة. كما أن الإعلام الصهيوني والغربي لم يكونا بمنأى عن هذه المعضلات من حيث فقدانهما صدقيتهما بسبب تعاملهما غير المهني مع أحداث صراعية كبرى حدثت في العالم، وذلك نتيجة تواطؤ السلطات السياسية والإعلامية والاقتصادية على خداع المواطنين، من أفغانستان والعراق إلى لبنان وغزة.
التحولات التكنولوجية والاتصالية المتسارعة
كي نفهم ما يجري في غزة من حرب إبادة جماعية، لا بد من أن نضع هذا الإجرام الذي لم نشهد له مثيلاً في تاريخ البشرية في سياق الرقمنة المتسارعة، والنيوليبرالية المتوغلة، والرأسمالية المتغولة. فقد التفّت الرأسمالية على المنظومة التكنولوجية الاتصالية ووظّفتها لمصلحتها، الأمر الذي أدى إلى اضطراب النظام السياسي الدولي الذي غدا يُدار من طرف تحالف الدول المهيمنة والمنظمات الدولية. وبالتالي، فرض هذا التحالف على الدول القومية تبنّي النموذج النيوليبرالي، وهو ما أضعف سيادة هذه الدول ودفعها إلى أن تستبدل نموذج دولة الرعاية بعقد اجتماعي جديد يؤسس للدولة الاجتماعية النشطة الساعية لتنشيط الأفراد المستبعدين من العقد الاجتماعي كي يحلّوا مشكلاتهم بأنفسهم، ويكونوا متعهّدين لحياتهم. وهذا الأمر يعني أن هناك محاولات لإيجاد أنماط جديدة من التنشئة والإدماج الاجتماعي للأفراد، بحيث غدا المطلوب من هؤلاء أن يكونوا مستهلكين بشراهة، ومنافسين بلا هوادة، ومتصلين بلا كلل ولا ملل، ذلك بأن الآلة النيوليبرالية تحتاج إلى هؤلاء الأفراد لتعمل وتدور عجلتها.[3] ومن أجل إعطاء معنى وتبرير لما يقوم به النظام النيوليبرالي في عدة دوائر، أنتج الفاعلون أيديولوجيا نيوليبرالية اتصالية اعتبروها بديلاً من الأيديولوجيات التي أخفقت في حل مشكلات الإنسانية، وذلك بهدف توجيه الممارسات التي تتخلل المجالات العلائقية للحياة الاجتماعية. هكذا، وبضربة واحدة، تمت التضحية بالتقدم الاجتماعي على مذبح التقدم التقني.
وفي معرض محاولات الشركات الكبرى الحلول محل الدولة، سنّت هذه الأخيرة معاييرها، وصاغت رقابتها بطريقة حاذقة، ومن منطلقات النظام الرأسمالي عينه. فراحت تحدد ما هو مسموح وما هو ممنوع تحت عنوان محاربة التطرف والكراهية والخطاب العنيف، فحجبت مواقع وصفحات باستنسابية لا مثيل لها، وكان الكيل بمكيالَين تبعاً لمصالحها، مستخدمة أساليب الأسطرة حيناً، وأساليب الحجب حيناً آخر.
وفي هذا السياق، يتفاجأ البعض من تحول الرأي العام العالمي إلى مصلحة القضية الفلسطينية، بما يتعارض مع مواقف حكوماتهم، ويربط ذلك بجرائم الإبادة الجماعية التي ترتكبها الآلة العسكرية الصهيو – أميركية في حقّ الأطفال. ولو فكّرنا بطريقة خطيّة لوجدنا أن انتشار الصور المروّعة في الفضاء المفتوح هو الذي دفع الرأي العام إلى التحرك والاستنكار والشجب والضغط لتغيير السياسات، لكن لو تعمقنا أكثر فيمَن يتحرك، وفي أي سياق يتحرك، لوجدنا أن الأمر أبعد من قضية غزة ، فهناك عدة عوامل هي التي حركت هؤلاء الذين هم في أغلبيتهم من المهاجرين ومن أبناء الطبقة الوسطى وما دون، الذين لفظهم النسق النيوليبرالي الرأسمالي المتوحش، وتركهم كل واحد لقدره. وفي ظل غياب الأحزاب الفاعلة، والنقابات والقوى الوسيطة، وجد هؤلاء في قضية غزة عوناً لهم، ومدخلاً إلى التحرك، وتأكيداً جازماً لمقولة “نهاية الأخلاق” و”نهاية الإنسان”، علماً بأن العالم شهد في العقود الثلاثة الأخيرة تحركات مماثلة، مثل: “حراك سياتل ضد اتفاقية التجارة العالمية (1999)”؛ “حراكات الانتفاضات العربية (2011)”؛ “حراكات 15 أيار / مايو الساخطين (Los indignados de 15-M) (2011) ؛ “حراك احتلوا وول ستريت” (Occupy Wall Street) (2011)؛ “حراك الليل وقوفاً” (Nuit Debout) (2016)؛ “السترات الصفر” (2020)؛ “تحركات على خلفية مقتل جورج فلويد في أميركا”. غير أن هذه الحراكات كلها تفتحت وذبلت بسرعة، فهذه الحركات المسماة “الحركات الاجتماعية الجديدة” قدّمت إطاراً ملائماً تلاقت فيه ثلاث ظواهر هي: السخط والاستنكار؛ التشبيك الرقمي؛ انبثاق ثقافة نضالية جديدة أعطت الكلام لفئات اجتماعية جديدة كانت أساساً صامتة سياسياً. وهذه الدينامية الجديدة غدت تمسّ الأنظمة الديمقراطية وتنال من النظم السلطوية، إذ باتت تبزغ حين تتنازل الدائرة السياسية وتضمحل أمام الشأن الاقتصادي الذي نصّب نفسه معرفة وعِلماً وحاكماً. وتبدو الحصيلة مشجعة إذا أخذنا بعين الاعتبار عمليات التوعية والتعبئة، لكنها تصبح هزيلة عندما يتم تفحص العبور نحو سياسة فاعلة.[4]
هذا الجدل الفكري اللامتناهي بشأن العلاقة بين التكنولوجيات الرقمية والفردانية والتعبئة على مستوى المجموعات، يحيلنا إلى ضرورة ممارسة التفكير المركّب والمنطلق من مقاربات متنوعة ومتشابكة تأخذ بعين الاعتبار جملة أمور من أبرزها: السياقات الاتصالية؛ السياقات السياسية والثقافية والاقتصادية والاجتماعية المحيطة؛ اهتزاز البُنى والهياكل التنظيمية التقليدية التي ترافقت مع نشوء ما سُمي “دولة الرعاية” والأيديولوجيات الكامنة خلفها؛ التحولات الطارئة على مستوى تشكُّل الفرد بحد ذاته، واهتزاز نقاط ارتكازه بفعل الصعود المتنامي للفردانية، والدعوات المتزايدة إلى أن يصبح هذا الأخير متعهداً لحياته؛ التحولات التي أصابت الفضاء العمومي بعدما أصبحت حدوده مطاطة ودخل إليه فاعلون جدد. وهذا الأمر يعني أن موجات الغضب والاستنكار لا تصنع رأياً عاماً فاعلاً وضاغطاً، لأن الرأي العام كي يتبلور ويفعل فعله في صناديق الاقتراع إنما هو بحاجة إلى أن يأخذ وقتاً، وإلى أن يستند إلى المحاججة العقلانية.
فرص وإمكانات وسبل بناء سردية مناهضة
في مجتمع المعلومات نعيش أزمة السردية، ذلك بأن البيانات المتضاربة والمتسارعة والكمية تطيح بإمكان تشكُّل أو تشكيل أي خطاب أو سردية، وخصوصاً أن السردية لا تأتي من فراغ، بل لها جذور تاريخية وامتدادات مستقبلية. فالسردية يجب أن تستند إلى واقع صلب، وتنطلق من مقاومة فعلية على الأرض تمدها بالقوة والحيوية والروح المعنوية والمعنى وكل ما من شأنه أن يضمن التماسك الاجتماعي والصمود الوطني. غير أن بناء السردية يتطلب توفر مجموعة من المقومات والشروط العامة، ومنها:
أولاً: الاقتناع بأن نقطة الانطلاق لبناء سردية مناهضة ذات معنى تتمثل في مقاومة العدو وإنهاكه وإرباكه وإفشال مخططاته. ولتحقيق ذلك، لا بد من معرفة الذات، ومعرفة العدو، ومعرفة منطق اشتغال المنصات الرقمية، ووعي أهدافها وغاياتها، من أجل التفكير في كيفية التموضع في هذه البيئة، وتوظيفها مثلما نريد نحن، لا مثلما يُراد لنا.
ثانياً: تخطي الخلافات البينية، والإقلاع عن التسميات الطائفية والمذهبية التي تعزز الفرز الطائفي، والاستماع إلى بعضنا البعض، والبحث عن مساحات مشتركة بين الفلسطينيين على مختلف انتماءاتهم وتوجهاتهم، وما بين الفلسطينيين والعرب المؤيدين للقضية، وما بين العرب وأحرار العالم، سواء في الشمال العالمي أو الجنوب العالمي. وهذا يتطلب العمل في مختلف الاتجاهات: كالمناهج، والجامعات، ومراكز الأبحاث، والأحزاب، والنقابات، والمنظمات، والحركات الشبابية، والإنتاجات الفنية والأدبية والمعرفية… على أن تكون كلها بتمويل وطني بعيد عن الارتهان للتمويل الأجنبي.
ثالثاً: ممارسة النقد الذاتي، وتفعيل الفكر النقدي، والعمل على التخلص من الإرث الاستعماري، والتفكير الاستشراقي، كي لا يتمكن العدو من أن يأخذ منا في السلم وتحت عنوان الإغاثة ما لم يتمكن من أخذه في الحرب والتدمير، علاوة على تثمير الجوانب الإيجابية الكامنة في ثقافتنا وعاداتنا وتراثنا الحضاري، والبناء عليها، وأخذ العِبَر من الصمود الأسطوري والمذهل لأهل غزة، ووضع آليات للعمل الإعلامي بطريقة مغايرة عمّا هو سائد، والاستثمار فيما يتطلب ذلك من كشف القناع عن حقيقة الإعلام الغربي الذي تديره آلة عسكرية صناعية سياسية.
رابعاً: العناية بالذاكرة وإنعاشها بشكل مستمر، سواء من خلال إنتاج أفلام وثائقية هدفها التذكير المتواصل بالمجازر المتعاقبة في حقّ شعوبنا، أو من خلال تخليد ذكرى الشهداء، وتعزيز البيئة الحاضنة للمقاومين، ومساندة الأسرى والجرحى، والإعلاء من شأن ثقافة المقاومة والتضحية والفداء، مع ضرورة عدم المبالغة في عرض صور الجثث والأشلاء على شاشات التلفزة وفي منصات التواصل الاجتماعي، لأن ذلك يثير الغضب والاستنكار الآني، لكنه يتسبب على المدى الطويل بتطبيع الدم، وتبلد المشاعر. وبالتالي من الضروري بمكان الاستعاضة عن ذلك بإنتاج سرديات مختصرة لهؤلاء الضحايا الشهداء، وتركيز الضوء على فعل وسرديات أبطال الطواقم الإسعافية والطبية والإغاثية والإعلامية، لأنهم سند المقاومين وحاضنتهم، وعدم الخضوع لضغط السرعة والآنية والرغبة في الرواج، بل أخذ الوقت الكافي واعتماد المصادر الموثوق بها لإنتاج محتوى موثوق به ويتمتع بصدقية مستدامة.
خامساً: تدشين مشروع فكري واضح المعالم من شأنه بلورة أجندة إعلامية نعمل على تحقيق أهدافها في مختلف المجالات والأمكنة والوسائط الإعلامية، كي لا تبقى الآراء على المنصات الرقمية مجرد آراء مستنكرة غاضبة متقلبة، وكي لا يبقى الأفراد عرضة للرقابة، تديرهم المنصات تبعاً لأهوائها واتجاهاتها. والمطلوب هنا بلورة خطط خاصة بالفضاء الرقمي يُعدّها ويشرف على تنفيذها الخبراء والمثقفون والناشطون، وذلك بالتزامن مع إقامة شبكة تواصل وتعاون بين المؤثرين، والإعلاميين، وصنّاع المحتوى. وفي هذا الصدد، يمكن الاستفادة من التنافس القائم بين المنصات، فما دامت هذه المنصات تتصارع على المعلومات والإعلانات، وتعنيها الكمية واستدامة الاتصال في المقام الأول، فإنه يمكن ممارسة الضغط من هذا المنطلق مع الحفاظ على نوعية المضمون.
سادساً: تفعيل العمل النقابي من أجل رعاية أخلاقيات المهنة، ودعم الإعلاميين والناشطين والمؤثرين الذين يتعرضون للضغوطات والملاحقة التي تبلغ حد الاستهداف المادي بالقتل (مثلما جرى مع شيرين أبو عاقلة ومحمد أبو حطب وفرح عمر وربيع المعماري وعائلة وائل الدحدوح وعشرات غيرهم)، وعدم السكوت على الممارسات التمييزية من طرف وسائل الإعلام الغربية في حقّ الصحافيين الوطنيين المؤمنين بالقضية، مثلما حدث مع ندى عبد الصمد وسناء خوري، ومن قبلهما الإعلاميون الذين طُردوا من “دويتشيه فيليه”، على خلفية مواقفهم من العدوان الإسرائيلي، وضرورة استبدال الجوائز والمحفزات والفرص التي يوفرها الإعلام الغربي ببدائل وطنية.
مجمل القول أنه ليس هناك وصفة جاهزة لبناء سردية مناهضة، بل لا بد من طرح الأفكار، وبناء الخطط، والحفر في أرضنا نحن، وتوظيف ما لدينا من طاقات وكفاءات بالطرق الملائمة، كل من موقعه، وبما يليق بالقضية المحمّلة بالمعاني الإنسانية، وهي القضية الفلسطينية.
المصادر:
[1] Lauren Malka, Les Journalistes se slashent pour mourir: La presse face au défi du numérique (Paris: Robert Laffont, 2016).
[2] Philippe Breton, La parole manipulée (Paris: La Découverte, 1997).
[3] Guy Bajoit, “La logique de fonctionnement du capitalisme néolibéral”, ”Pour”, 20 Mai 2018.
[4] برتران بادي، “بين التطلعات والخيبات”، في “بحثاً عن بدائل: أوضاع العالم 2018″، إعداد برتران بادي ودومينيك فيدال، ترجمة نصير مروة (بيروت: مؤسسة الفكر العربي، 2018)، ص 9 – 27.
-
نهوند القادري عيسى: أستاذة جامعية وباحثة في شؤون الإعلام والاتصال.
المصدر: “مجلة الدراسات الفلسطينية” – العدد 137 – شتاء 2024