كتبت صحيفة “الجمهورية”: ليس معلوماً أيّ التقديرات ستصيب: هل تلك التي تجزم بأنّ الحرب الاسرائيلية على قطاع غزة ستتوسّع وتشعل كل المنطقة بما يؤسّس لشرق أوسط جديد لإسرائيل، ام تلك التي تجزم بدورها أنّ هذه الحرب ورغم قساوتها، وكثرة داعميها ورعاتها، ستبقى محصورة بالميدان الغزّاوي، ولن تتمكن خلالها إسرائيل من بلوغ السقف العالي الذي حدّدته بالقضاء على «حماس» وتصفيتها؟
ليس في الامكان الجزم بأيّ من تلك التقديرات هو الأكثر دقة، وإنْ كانت الحرب الواسعة هي الاكثر ترجيحاً ربطاً بحرب الدمار الشامل التي تشنها اسرائيل على غزة بدعم مباشر وغير مسبوق من الولايات المتحدة الاميركية والغرب، واستعداداتها لاجتياح برّي للقطاع، وبالأجواء الحربيّة التي تسود المنطقة التي تبدو وكأنها باتت قاب قوسين أو أدنى من أن تنزلق الى حرب قد يُعرف كيف تبدأ، ولكن لا يُعرف كيف ستنتهي، وأيّ جبهات ستشمل وأي نتائج ستتأتّى منها على كل دول المنطقة.
على أنّ تلك التقديرات تتقاطع جميعها عند ثابتة وحيدة وهي أنّ ما بعد عمليّة حركة «حماس» في السّابع من الشهر الجاري، والحرب التدميريّة التي تلتها، ليس كما قبله؛ أيْ واقع جديد تأثيراته ستنسحب على كلّ المنطقة، سواء حققت اسرائيل النصر الذي تريده على «حماس» او لم تتمكّن من تحقيق ذلك. وهو واقع لا يمكن التكهّن فيه سوى بسيناريوهات مخيفة وبأثمان كبرى ستُدفع.
في موازاة تلك السيناريوهات، تتصاعد المخاوف من أن يكون لبنان أكثر من يدفع الثمن، فحدوده الجنوبية باتت شبه مفتوحة، وصعدت الى ذروة التوتّر جرّاء العمليّات الحربيّة بين «حزب الله» واسرائيل، التي تسارعت في الايام الاخيرة بوتيرة مكثّفة وعنيفة على طول الخط الحدودي، وأشاعت قلقا جديّا من احتمال انهيارها بشكل أخطر وأوسع، تبعاً لأيّ طارىء قد يحصل في أي لحظة.
الا انّ اللافت للانتباه في الجو المتوتر على الحدود، هو ان العمليات العسكرية سجلت نهار امس تراجعا لافتا عمّا كانت عليه في الأيّام السّابقة، من دون ان يعني ذلك ان باب الاحتمالات الحربية قد اغلق، حيث ظل التوتر مسيطرا، في ظل تحليق مكثف لطيران الاستطلاع الاسرائيلي في أجواء الحدود وصولاً الى النبطية واقليم التفاح، ليعود الوضع الى التوتر في فترتي بعد الظهر والمساء تخلله قصف لخراج بلدة كفرحمام وعمليات تمشيط نفذها العدو لمحيط موقع رويسات العلم في القطاع الشراقي، وأفيد عن قصف اسرائيلي على مركز الجدار التابع للجيش اللبناني في خراج بلدة رميش. وسمعت صافرات الانذار بوضوح داخل «كيبوتس دان» القريب من الحدود اللبنانية. واعلن جيش العدو عن «اعتراض مسيرة قادمة من لبنان اخترقت مجالنا الجوي من جهة البحر قبالة عكا، وانّ سلاح الجو الاسرائيلي هاجَم خلية كانت تخطط لإطلاق صواريخ في مزارع شبعا. كما اعلن المتحدث باسم الجيش الاسرائيلي عن تعرّض موقع مسكافعام لإطلاق نار من الجانب اللبناني، فيما تحدثت وسائل الاعلام الاسرائيلية عن سقوط صاروخين في مستوطنة كريات شمونة ما أدى الى اصابة مستوطنين بجروح.
توتر فوق الجمر
وشَبّه مصدر امني مسؤول الوضع على الحدود بـ»التوتر فوق الجمر»، وابلغ الى «الجمهورية» قوله ردا على سؤال عما اذا كانت تتوقع تفجيرا واسعا في الجنوب: تطورات الحرب الاسرائيلية على قطاع غزة، او بمعنى أدق تحضيرات جيش العدو لعملية برية في القطاع هي التي تحدّد إشعال فتيل التفجير او اطفائه. ولكن حتى الآن يبدو ان اسرائيل ما زالت في حال تخبّط ازاء هذه العملية، وهو ما يعكسه الاعلام الاسرائيلي بوضوح وحديثه تارة عن إنهاء تلك التحضيرات، وتارة اخرى عن خلاف حاد بين نتنياهو والجيش الاسرائيلي على خلفية هذه العملية. وآخر الذرائع ما كشفته اذاعة الجيش الاسرائيلي بأنّ اسرائيل وافقت على طلب واشنطن تأجيل الدخول البري الى غزة حتى وصول قوات اميركية اضافية».
امام هذا التخبط، يضيف المصدر: «يبدو ان اسرائيل تعوض عن ذلك بتكثيف غاراتها التدميريّة لقطاع غزة، امّا الجبهة الجنوبية فتبدو انها شديدة الهشاشة، ولكن رغم التوتر الشديد الذي يسودها لا توجد اي مؤشرات الآن الى تفاقم الامور بشكل واسع الا اذا حصل ما ليس في الحسبان، ولكن الوضع بصورته الحالية خلاصته انّ ما يحري من عمليات عسكرية وقصف ما زال تحت سقف قواعد الاشتباك الجديدة. وهذا السقف قد يشهد ارتفاعا في بعض الاحيان، كما قد يشهد انخفاضا في احيان اخرى».
وأوضح المصدر «انّ اتّساع رقعة العمليات العسكرية يبدو انه عدّل في ما كانت تسمى قواعد الإشتباك المعمول بها منذ العام 2006 بين «حزب الله» وجيش العدو الاسرائيلي التي كانت محصورة فقط بالمناطق غير المحرّرة، فيما العمليات اليومية التي نفّذها «حزب الله» ضد المواقع العسكرية الاسرائيلية على طول الحدود، وكذلك الامر بالنسبة الى القصف الاسرائيلي الذي يتجنّب عمق البلدات الجنوبية واحيائها السكنية، ويتركز على اطراف البلدات وما تسمى المناطق المفتوحة، بما يؤشّر الى ما يبدو انه توسيع غير معلن لمساحة قواعد الاشتباك، بحيث باتت شاملة جانبي الحدود الجنوبيّة امتداداً من مزارع شبعا وتلال كفر شوبا شرقاً الى الناقورة غرباً».
خوف… وحسابات
يلاقي ذلك مصدر سياسي مسؤول بقوله لـ»الجمهورية» انه «على الرغم من الاجواء السائدة، سواء في غزة او على الحدود الجنوبية، فحتى الآن، لست ارى ان العملية البرية التي تحدثت عنها اسرائيل ضد قطاع غزة مُيسّرة، ولو انها كانت كذلك لما تأخرت لحظة. كما انني حتى الآن لست ارى تدحرجا خطيرا للوضع على الحدود، فبتقديري انّ الهواجس المانعة للتدهور ما زالت موجودة بقوة، اولها الخوف الذي يعتري جميع الاطراف من الحرب الواسعة، وثانيها الحسابات. فالاميركيون وكما هو واضح يشجعون اسرائيل في حربها الانتقامية ضد «حماس»، وفي الوقت ذاته يسعون جهدهم لعدم توسيع هذه الحرب، بدليل تحذيراتهم المتتالية لـ»حزب الله» من فتح الجبهة، وكذلك بمحاولة مغازلة ايران والقول بعدم وجود دليل على وقوفها خلف هجوم حماس، او خلف العمليات التي تشنّ ضد الاميركيين في العراق. فالاميركيون يعرفون مسبقاً وقبل غيرهم، أيّ نتائج ستؤدي اليها أيّ حرب تقع، وتؤذي جميع اطرافها من دون استثناء».
اضافة الى ذلك، يضيف المصدر عينه، «فإنّ الدول الاوروبية ورغم تغطيتها لحرب اسرائيل على غزة، فهي قلقة جدا من الحرب بل لا تريدها، ذلك ان اوروبا قريبة من الشرق الاوسط، ودولها قد تكون الاكثر تأثراً بما قد ينتج عن هذه الحرب من سلبيات ومخاطر على مصالحها في المنطقة، وكذلك مما قد تحرّكه تلك الحرب من هجرة واسعة وكثيفة اليها، وهذه الهجرة قد تكون عاملا قويا في تسلل ما تعتبره الدول الاوروبية الارهاب اليها. اما ثالث هذه الهواجس، فهو ميزان الربح والخسارة لدى اطراف الحرب المفترضة، والاكلاف الصعبة التي سيدفعها مَن راهن على ربح هذه الحرب فخسرها، حيث سيتسحيل عليه في حال خسارة الحرب، حتى اعادة ترميم نفسه».
حراك دولي
بالتوازي مع التركيز الدولي على الجبهة الجنوبية والمساعي المكثفة لمنع انزلاقها الى حرب واسعة، والتحذيرات المتتالية من اكثر من مستوى دولي، تَبدّى حضور اميركي مكثف على هذا الخط، وكذلك جولات مستمرة، وبعضها غير منظور، يقوم بها السفير الفرنسي في لبنان إيرفيه ماغرو في اتجاه الاطراف اللبنانية. وضمن هذا السياق اندرجت زيارات سائر الموفدين الغربيين وآخرهم وزير الدفاع الايطالي الذي وصل الى بيروت امس، والتي حملت جميعها رسالة بمضمون واحد الى المسؤولين اللبنانيين: النأي بلبنان عمّا يجري في غزة، والحفاظ على الامن في منطقة الحدود مع اسرائيل، وثَني «حزب الله» عن القيام بأيّ عمل يؤدي الى تدهور الوضع، بما قد يلحق الضرر الكبير بلبنان». ولفت في هذا السياق ما قاله وزير الخارجية الايطالية من أنّ انتقال العنف الى لبنان سيُفضي الى عواقب وخيمة للغاية».
بري: الخطر مصدره إسرائيل
يُشار هنا الى أنّ رئيس مجلس النواب نبيه بري، الذي التقى امس قائد الجيش العماد جوزف عون، قد أبلغ الموفدين الغربيين ما مفاده بأنّ المشكلة ليست عندنا، بل اسرائيل هي مصدر الخطر، وليس لبنان، وعليكم ان توجّهوا كلامكم الى اسرائيل».
واكد بري ايضاً «أن لبنان ملتزم بالشرعية الدولية وهو يمارس حقه المشروع في الدفاع عن نفسه أمام العدوان الإسرائيلي الذي يستهدفه»، منوّهاً خلال لقائه السفير البرازيلي بموقف البرازيل ورئيسها لولا دا سيلفا وجهوده الرامية لوقف العدوان الاسرائيلي ودعم حقوق الشعب الفلسطيني سواء في مجلس الامن الدولي وعبر المشاركة في مؤتمر القاهرة».
قلق غربي
وفي هذا الإطار، أبلغت مصادر ديبلوماسية غربية الى «الجمهورية» قولها: إنّ الوضع على حدود لبنان الجنوبية لا يبعث على الاطمئنان، ونلاحظ تكثيفا للعمليات العسكرية من قبل «حزب الله»، ومن شأن هذا الامر أن يخلّ بالإستقرار ويخلق وضعا متفجرا، وهو ما نسعى الى تجنّبه، وقد أبلغنا القادة اللبنانيين بأن ليس من مصلحة لبنان ان ينزلق الى حرب، ولمسنا حرصاً لدى رئيس الحكومة اللبنانية في هذا الاتجاه، وأكد ان جهوداً تُبذل لاحتواء اي امر يتسبّب بمفاقمة التوتر. ولكن ما نراه مِن تعمّد «حزب الله» تكثيف الأعمال العسكرية يثير القلق البالغ لدينا».
شيا تهاجم «الحزب»
ولفت في هذا السياق ما قالته السفيرة الأميركية في لبنان دوروثي شيا خلال الإحتفال الذي أقامته السفارة الأميركية في الذكرى الأربعين لتفجير مقرّ المارينز في بيروت في 23 تشرين الأول 1983: «نقول بشكل لا لبس فيه إنّ التزامنا تجاه شعب لبنان أقوى بكثير من أي عمل جبان من أعمال العنف أو الإرهاب». واضافت: «اليوم، نحن نرفض، ويرفض الشعب اللبناني، تهديدات البعض بجرّ لبنان إلى حرب جديدة. ونحن مستمرون في نبذ أية محاولات لتشكيل مستقبل المنطقة من خلال الترهيب والعنف والإرهاب. وأنا هنا أتحدث ليس فقط عن إيران و»حزب الله»، بل وأيضاً عن «حماس» وآخرين، الذين يصوّرون أنفسهم كذباً على أنهم «مقاومة» نبيلة، والذين ومن المؤكّد أنهم لا يمثلون تطلّعات أو قيم الشعب الفلسطيني، في حين أنهم يحاولون حرمان لبنان وشعبه من مستقبلهم المشرق».
الوضع الداخلي
داخلياً، الصورة العامة جمود كامل بالنسبة الى ما يتصل بالملف الرئاسي، ونشاط خجول في المجلس النيابي، والعمل الحكومي يتحرّك على خطين: مواكبة تطورات المنطقة، وتوفير ما أمكن ممّا يتطلبه الداخل من متطلبات. فيما برزت أمس، حركة لافتة لرئيس التيار الوطني الحر النائب جبران باسيل، حيث قام بزيارة رئيس حكومة تصريف الاعمال نجيب ميقاتي، بعد فترة طويلة من انقطاع الهجومات العنيفة بين الجانبين، وكذلك زيارة باسيل للرئيس السابق للحزب التقدمي الاشتراكي وليد جنبلاط. وتردد انه سيقوم بزيارة الرئيس بري في الساعات المقبلة. كما أفيد بأنّ الامين العام لـ»حزب الله» السيد حسن نصرالله تلقى اتصالا هاتفيا عن «طريق آمن» من باسيل، عَرضا فيه مجموعة من الملفات لا سيما التطورات الأخيرة في لبنان والمنطقة، وخاصة تلك التي تهدف إلى حماية لبنان وتعزيز الوحدة الوطنية. وتمّ الاتفاق على استمرار التشاور الدائم بما يخدم مصلحة لبنان وجميع اللبنانيين.
وأدرجت مصادر سياسية متابعة تحرّك باسيل في سياق ليونة حول بعض الملفات الداخلية، ولا سيما الملف المتعلق بالمؤسسة العسكرية، سواء ما يتعلق بتأجيل تسريح قائد الجيش العماد جوزف عون او بإكمال المجلس العسكري وتعيين رئيس جديد للاركان.
ولم تستبعد المصادر ان يكون الملف الرئاسي بنداً للنقاش في هذا الحراك، خصوصاً ان الايام الاخيرة شهدت موقفين لافتين حول رئاسة الجمهورية، الاول لجنبلاط قال فيه كفانا حسابات رئاسية، والثاني للرئيس بري حيث قال: نحن امام فرصة لانتخاب رئيس للجمهورية فهل نتلقّفها».
بوحبيب والمقداد
من جهة ثانية، زار وزير الخارجية في حكومة تصريف الاعمال دمشق والتقى نظيره السوري فيصل المقداد. ولحظَ بيان مشترك انّ الجانبين تدارسا الهدف من هذه الزيارة وهو معالجة التحديات المتصلة بأزمة النزوح السوري في لبنان، وشددا على أهمية التعاون المشترك لضمان العودة الكريمة للمهجرين السوريين إلى وطنهم الأم، وضرورة تَحمّل المجتمع الدولي والأمم المتحدة ووكالاتها المتخصصة لمسؤولياتهم في المساعدة على تحقيق هذا الهدف. وشرح الوزير المقداد الإجراءات التي اتخذتها الحكومة السورية على مدى السنوات الماضية وفي الآونة الأخيرة لإعادة الأمن والاستقرار وتيسير عودة السوريين إلى وطنهم، مؤكداً أن سوريا ترحّب بجميع أبنائها وتتطلع لعودتهم، وهي تبذل قصارى جهدها بالتعاون مع الدول الصديقة والشركاء في العمل الإنساني لتحقيق ذلك»، فيما أعرب الوزير بو حبيب عن امتنانه وتقديره للجهود والإجراءات التي اتخذتها الحكومة السورية. وتم الاتفاق على عقد اجتماعات تنسيقية لاحقة على مستوى المسؤولين والخبراء المختصّين لمتابعة المسائل المتصلة بعودة النازحين، وضبط الحدود، وتبادل تسليم المحكومين العدليين، وغيرها من المسائل ذات الاهتمام المشترك».
وضع أسس للعودة
وعلمت «الجمهورية» من مصادر رسمية تابَعَت زيارة دمشق، ان لقاء الوزيرين بو حبيب والمقداد أسفرَ عن وضع أسس للتعاون لعودة النازحين: عسكرياً من خلال وقف تهريب الاشخاص بين البلدين، وأمنياً من خلال إجراءت الامن العام بتسوية اوضاع المخالفين او ترحيلهم اذا اقتضى الامر، ودبلوماسياً وسياسياً من خلال اتصالات مع لجنة المساعي العربية التي شكّلتها القمة العربية الاخيرة لمتابعة الوضع في سوريا ولا سيما اعادة النازحين. ومع دول الاتحاد الاوروبي المعنية بموضوع اللجوء، ولو اضطر الامر الى ممارسة ضغط عربي على اوروبا لتسهيل العودة ودفع المساعدات المالية للنازِح في بلده ليستطيع اعادة بناء منزله المدمر والمساعدة في اعادة إعمار سوريا بدل دفعها في لبنان.
واشارت المصادر الى انّ رفض الغرب عودة النازحين يؤدي الى تدني العمالة التي تحتاجها سوريا لإعادة الاعمار طالما انّ غالبية اليد العاملة خارج البلاد. ولذلك لا تستطيع سوريا وحدها ولا لبنان وحده معالجة ازمة النازحين التي تحتاج اموالا ضخمة، من دعم مالي عربي وغربي.