كتبت صحيفة “الجمهورية” تقول:
عيداً عن الحماسيات، والغرق في المبالغات، والانسياق مع التحليلات التي تقارب الحرب الدائرة في الميدان الفلسطيني وفق الأهواء، ينبغي الإعتراف بأنّ كل ذلك لم يلامس خفاياها، الكامنة امام أكمة هذه الحرب وخلفها، التي ليس معلوماً كيف ومتى ستضع أوزارها، وأيّ واقع سينتج عنها.
المشهد كارثي، ودخان النار وغبار الدمار في قطاع غزة لم يحجبا علامات الاستفهام العابقة في اجواء هذه الحرب، والكَمّ الهائل من الاسئلة التي تتلاحق من كلّ حدب وصوب، باحثة عن اجابات واضحة تُميط اللثام حول ما يعتريها من الغاز، بدءاً بعملية «طوفان الاقصى» التي نفذتها حركة «حماس» ضد المستعمرات الاسرائيلية يوم السبت الماضي، لناحية توقيتها ونوعها وكمّها وسهولة اجتياحها لتلك المستعمرات، واسقاطها هذا الكمّ الكبير من القتلى والجرحى والاسرى في صفوف المستوطنين والجنود الاسرائيليين، وصولاً الى الحرب التدميرية التي تشنّها اسرائيل على قطاع غزة. لناحية ما اذا كانت فعلاً كرد انتقامي على عملية «حماس»، او انها حرب مُحضّرة بسيناريوهات أبعد من غزة، خصوصاً انّ الولايات المتحدة الاميركية حضرت بأسطولها وحاملات طائراتها إلى المنطقة، ورئيس الحكومة الاسرائيلية بنيامين نتنياهو قال صراحة وعلناً إن ما بعد غزة سوف يكون شرق أوسط جديداً؟
توتّر متصاعد
في موازاة هذا المشهد المروّع الذي ينحى في اتجاه اكثر دموية ودماراً، تصعيد متصاعد على حدود لبنان الجنوبية، يعزّز المخاوف من انفلات الامور في اي لحظة، حيث ان الوقائع الامنية تتلاحق بوتيرة متسارعة، مُرخية حالاً من التوتر الشديد على امتداد الحدود، ومولّدة حالاً من النزوح، الذي بَدت معه منطقة جنوبي الليطاني شبه خالية من سكانها.
على انه بالرغم من اجواء التوتر القائمة، فإنّ العمليات العسكرية والقصف المتبادل على جانبي الحدود تبدو وكأنها ما زالت محصورة في نطاق محدود، ومضبوطة حتى الآن بقواعد الاشتباك المتبعة بين «حزب الله» والعدو الاسرائيلي منذ العام 2006.
القواعد تحكم الحدود
وقالت مصادر امنية لـ«الجمهورية»: حتى الآن يمكن القول انّ قواعد الاشتباك التي تحكم الجبهة الجنوبية ما زالت مستقرة ولا تخرج عن الفعل ورد الفعل المتوقع. بدليل ان العمليات التي تحصل في هذه الجبهة، والتراشق الذي يواكبها، تحصل في اطار محدّد ومحدود في آن معاً على جانبي الحدود، تسود بعده حال من الهدوء، وهو ما شهدناه في الايام الاخيرة، ما يعني ثبات قواعد الاشتباك من دون أي تغيير فيها. لكن هذا لا يمنع إمكانية تطوّر الأمر أكثر تِبعاً لتطورات الميدان، وتبعاً لحصول ما سمّاه المتحدث باسم قوات اليونيفيل «سوء فهم» قد يتطوّر إلى تسخين الجبهة الجنوبية.
وإذ لفتت المصادر الى انّ «حزب الله» باركَ عملية «حماس» وتفاعل معها بتأكيده على حق الشعب الفلسطيني في مقاومة العدو، الا انّ الثابت لدينا انه لم يكن في جوّ هذه العملية، ومن هنا استبعدت المصادر «أن يُقبل الحزب على فتح جبهة قتال واسعة مع اسرائيل، والامر نفسه بالنسبة الى اسرائيل، التي اكدت الوقائع المتلاحقة منذ عملية «حماس» انّ اولويتها استهداف غزة، وتتجنّب بالتالي إرباكها بفتح جبهة جديدة في الشمال، وهو ما عكسَه رئيس حكومة العدو بنيامين نتنياهو بتحذيره مَن سمّاهم «أطرافاً أخرى» من انتهاز الفرصة لفتح جبهة جديدة على الحدود الشمالية»، وهو ما عكسته ايضاً التحذيرات المتتالية التي اطلقتها واشنطن على لسان الرئيس الاميركي جو بايدن ووزير الخارجية الاميركي انتوني بلينكن من فتح جبهات اخرى. وضمن هذا السياق، ابلغت رسائل اميركية واوروبية مباشرة الى الجانب اللبناني تؤكد العمل للحفاظ على هدوء الجبهة الجنوبية».
وبحسب معلومات موثوقة لـ«الجمهورية» في هذا السياق، فإنّ الجانب اللبناني رد على هذه الرسائل بتأكيد الالتزام بمندرجات القرار 1701، وانّ مصدر الخطر على المنطقة الجنوبية ليس من لبنان بل هو من جانب اسرائيل، وهو ما أبلغه رئيس مجلس النواب نبيه بري بشكل مباشر الى السفيرة الاميركية في لبنان دوروثي شيا خلال زيارتها الى عين التينة ظهر امس الاول».
وقال الامين العام للامم المتحدة انطونيو غوتيريش امس: من الضروري تجنّب امتداد الصراع إلى الجوار، وقلقون من تقارير الهجمات من جنوب لبنان.
الحرب الواسعة مستبعدة
وقال خبير عسكري لـ«الجمهورية»: ان العمليات العسكرية بالشكل الذي تجري فيه من استهداف لبعض المواقع والنقاط العسكرية ضمن الاراضي اللبنانية المحتلة، وما يليها من تراشق مدفعي وصاروخي ضمن ما تسمّى «المناطق المفتوحة» على جانبي الحدود الجنوبية لا يَصِل الى القوى والبلدات اللبنانية او المستوطنات الاسرائيلية، تؤكد بما لا يقبل ادنى شك ان لا اسرائيل ولا «حزب الله» معنيان بإشعال هذه الجبهة والدخول في حرب على نطاق واسع. وتبعاً لذلك فإنّ اتساع الحرب الراهنة لتشمل جبهة لبنان هو أمر غير وارد الحدوث».
ولفت الخبير عينه الى انّ كل الدلائل تؤكد ان اداء «حزب الله» ومنذ عملية «طوفان الاقصى» لا يخرج عن ضوابط قواعد الاشتباك بينه وبين اسرائيل، وينم عن ادراك كامل بأنّ الصدمة التي تلقّتها اسرائيل اكبر من ان تستوعبها، وأسّست لتغيير المعادلة القائمة في الداخل الفلسطيني، وفرض معادلات جديدة.
وردا على سؤال، قال الخبير: لست واثقاً بأن تكون لـ«حزب الله» صلة او شراكة بعملية «حماس»، بل اكاد أجزم بأنه ربما فوجىء بها. وهنا ينبغي التوقف عند ما اعلنه المرشد الايراني علي خامنئي قبل يومين، حينما سارعَ الى نفي علاقة ايران بالعملية، والاشاعات التي اطلقها أنصار اسرائيل وبعض افراد الحكومة الاسرائيلية بأنّ ايران تقف وراءها. وقال ما حرفيّته: «هم مخطئون، بالطبع نحن ندافع عن فلسطين وعن النضال. لكن من يقول إن عمل الفلسطينيين سببه غير الفلسطينيين… يخطئ في حساباته. فالهجوم هو «من عمل الفلسطينيين».
على أن الخطر الاكبر، كما يقول الخبير العسكري، كامِن في غزة، حيث انّ المستويات السياسية الامنية والعسكرية والسياسية في اسرائيل قررت ان تحوّلها ارضاً محروقة وتدمّرها بالكامل بما يمهّد لاجتياح برّي للقطاع. وما ورد على لسان بعض القادة الاسرائيليين بدعوة فلسطينيي غزة الى الرحيل الى شبه جزيرة سيناء، يكشف بوضوح عن مشروع إسرائيلي مُعد مسبقاً، يبدو انه مدعوم بأكبر حشد دولي تتصدره الولايات المتحدة الاميركية، لفرض واقع فلسطيني جديد وربما تغيير في خريطة المنطقة. وهذا المشروع يشكل بالتأكيد الشرارة لاشتعال واسع النطاق، وضمن هذا الاطار أنظر بقلق بالغ الى اتفاق نتنياهو والمعارضة الاسرائيلية على تشكيل حكومة حرب موسعة».
الوضع الميداني
ميدانياً، عاشت المنطقة الحدودية حالاً من التوتر الشديد في فترة ما قبل ظهر امس، ترافقَ مع قصف اسرائيلي لخراج بعض البلدات في القطاع الغربي، شمل محيط بلدتي الضهيرة ومروحين، حيث شاركت بالقصف مسيرات اسرائيلية. وأفيد عن اصابة ثلاثة اشخاص بجروح، كما ألحَقَ القصف أضراراً كبيرة في المزروعات واصاب بعض المنازل. كما أصاب الخزان الرئيسي الذي يغذّي بلدة يارين بالمياه، وسط تحليق مكثف لطيران الاستطلاع الاسرائيلي.
وفي هذه الاثناء، تفقدت دورية للجيش اللبناني المنازل التي طالها القصف الاسرائيلي، وطلبت من المواطنين اخلاء المكان خوفاً من تجدد القصف حفاظاً على سلامتهم.
واعلنت قيادة الجيش، في بيان، انه «بعد عملية مسح وتفتيش للمناطق الحدودية، عثرت وحدة من الجيش في سهل القليلة على المنصة التي أطلِق منها عدد من الصواريخ يوم أمس الاول، وكانت تحمل صاروخًا عملت الوحدة المختصة على تفكيكه».
الحزب يرد
وكانت «المقاومة الاسلامية» قد اصدرت بياناً أعلنت فيه انه: «في ردٍّ حازم على الاعتداءات الصهيونية يوم الاثنين الموافق في 09/10/2023، والتي أدّت إلى استشهاد عدد من الأخوة المجاهدين وهم الشهداء: حسام ابراهيم، علي فتوني، علي حدرج. قام مجاهدو المقاومة الإسلامية صباح اليوم الأربعاء 11/10/2023 باستهداف موقع الجرداح الصهيوني قبالة منطقة الضهيرة بالصواريخ المُوجّهة، ما أدى إلى سقوط عدد كبير من الإصابات المؤكدة في صفوف قوات الاحتلال بين قتيل وجريح. إنّ المقاومة الإسلامية تؤكد مُجدّدًا أنها ستكون حاسمة في ردها على الاعتداءات الإسرائيلية التي تستهدف بلدنا وأمن شعبنا خاصة عندما تؤدي هذه الاعتداءات إلى سقوط الشهداء».
ونشر الحزب شريط فيديو يُظهر استهداف المقاومة لمجموعة من الجنود الاسرائيليين في تلة الجرداح.
واثناء القصف، دوّت صافرات الإنذار في مراكز «اليونيفيل» في البلدات التي يطالها القصف الاسرائيلي. واعلن الجيش الاسرائيلي انه تمّ «استهداف أحد مواقعنا في الجبهة الشمالية بصاروخ مضاد للدبابات أطلق من لبنان»، وأضاف أن هناك امكانية «الاشتباه في عملية تسلل في منطقة رأس الناقورة الحدودية مع لبنان». وافادت وسائل إعلام إسرائيلية انه «طُلب من السكان في رأس الناقورة الدخول إلى الأماكن المحصنة».
وقال الناطق الرسمي بإسم اليونيفيل أندريا تيننتي، في بيان: «تواصل اليونيفيل حضورها ومهامها العملياتية. عملنا الأساسي مستمر وقيادة اليونيفيل على اتصال دائم مع السلطات على جانبي الخط الأزرق وتَحضّ على ضبط النفس».
وأفيد في فترة المساء انّ اجواء التوتر عادت لِتخيّم على المنطقة الحدودية، حيث اعلنت اسرائيل انّ صفارات الانذار دَوت في كل مستوطنات الجليل الاعلى والغربي بسبب خرق جوي من جهة لبنان. وذكرت وسائل اعلام اسرائيلية ان صاروخا سقط في مستوطنة المطلة.
واعلن المتحدث باسم الجيش الاسرائيلي عن شبهات تسلل من لبنان في المجال الجوي الاسرائيلي، فيما انطلقت صفارات الانذار في المدن والبلدات في المنطقة الحدودية الشمالية وطلبَ الجيش من سكان بلدات بيت شان وصفد وطبريا الاختباء حتى إشعار آخر تخوّفاً من هجوم واسع النطاق.
إستنفار وتعزيزات
وعلى رغم اجواء الهدوء الحذِر التي سادت في فترة ما بعد الظهر، فإنّ جو الاستنفار هو الحاكم على جانبي الحدود الجنوبية، ولوحِظ في هذا السياق استقدام العدو الاسرائيلي لتعزيزات الى الجانب الآخر من الحدود بالتزامن مع تعزيزات مماثلة في اتجاه منطقة الجولان. في وقت أُعلن فيه انّ «الجبهة الداخلية الإسرائيلية وجّهت دعوات الى سكان المناطق الحدودية الشمالية لالتزام الملاجىء والاماكن المحصنة». وقال المتحدث باسم الجيش الإسرائيلي: انّ «السوريين و»حزب الله» يشاهدون ما تفعله إسرائيل في غزة».
الحزب والتدخل الاميركي
الى ذلك، اعلن «حزب الله» في بيان للدائرة الاعلامية فيه انه «يعتبر الولايات المتحدة شريكًا كاملًا في العدوان الصهيوني ونحمّلها المسؤولية التامة عن القتل والإجرام والحصار وتدمير المنازل والبيوت والمجازر المروعة بحق المدنيين العزّل من الأطفال والنساء والشيوخ».
وطالبَ «جماهير أمتنا العربية والإسلامية، التي تعرف الحقيقة البشعة لأميركا وعدوانها على شعوب أمتنا في العراق وسوريا وأفغانستان»، بـ«أن تدين التدخل الأميركي وشركاءه الدوليين والإقليميين وتفضح هذا التدخل على كافة المستويات السياسية والشعبية والإعلامية والقانونية وفي شتى المحافل والتجمعات الإقليمية والدولية».
واعتبر الحزب انّ «إرسال حاملات الطائرات إلى المنطقة بهدف رفع معنويات العدو وجنوده المُحبطين يكشف عن ضعف الآلة العسكرية الصهيونية رغم ما ترتكبه من جرائم ومجازر. وبالتالي، حاجتها إلى الدعم الخارجي المتواصل لمد هذا الكيان الغاصب المؤقت بأسباب الحياة. ولذلك نؤكد أنّ هذه الخطوة لن تخيف شعوب أمتنا ولا فصائل المقاومة المستعدة للمواجهة حتى تحقيق النصر النهائي والتحرير الكامل».
النزوح… تابع
من جهة ثانية، يبدو ان موجات النزوح السوري غير الشرعي، ما زالت في تدفّق مستمر من دون توقف في اتجاه لبنان. وفي هذا الاطار اعلن الجيش احباط محاولة تسلل نحو ١٥٠٠ سوري عبر الحدود اللبنانية – السورية خلال الاسبوع الحالي. وحذّرت قيادة الجيش المواطنين من مَغبّة المشاركة في أعمال التهريب كونها تعرّضهم للملاحقة القانونية، كما تؤكد أنها سوف تتشدّد في إجراءاتها لتوقيف المتورطين وتسليمهم إلى المراجع المختصة.
وقد حضر ملف النازحين في اجتماع وزير الخارجية والمغتربين في حكومة تصريف الأعمال عبدالله بوحبيب مع نظيره السوري فيصل المقداد، على هامش مشاركتهما في الاجتماع الوزاري العربي في دورته غير العادية في القاهرة. واتفقا على تحديد موعد زيارة بوحبيب على رأس وفد الى دمشق في ٢٣ تشرين الاول الجاري لبحث القضايا المشتركة، لا سيما النزوح السوري.