كتب الدكتور خضر ياسين* لمناسبة ذكرى تغييب سماحة الامام السيد موسى الصدر:
شكّل سماحة الإمام السيد موسى الصدر حالة وطنية لبنانية سمت فوق مستوى الطوائف والمذاهب والأعراق، من خلال تجاوزه كل العصبيات الدينية والطائفية والمذهبية، إذ كان يعتبر بطرحه ونهجه وفكره قيمة إنسانية كاملة لما يمثّله على المستوى العالمي والعربي والإسلامي والوطني، حيث نادى عاليآ بوعي وإدراك كبيرين داعيآ إلى حوار الحضارات والثقافات وتفاعل الأديان خدمة للإنسان.من جهة ثانية وعى الإمام الصدر الخطر الإسرائيلي على الدول العربية بشكل عام وعلى لبنان وجنوبه ومياهه بشكل خاص، ففي العام ١٨٩٨ عندما وجه المستشار الألماني سؤالا لهرتزل عن حدود الرقعة التي فكر فيها لإقامة الوطن اليهودي وهل تمتد شمالا الى بيروت أم تتعداها، كان جواب هرتزل( سوف نطالب بما نحتاج اليه، فكلما ازداد عدد المهاجرين ازدادت حاجتنا إلى الأرض).ففي لقائه مع سماحة الإمام المغيّب السيد موسى الصدر قبل مغادرته الأخيرة للبنان في العام ١٩٧٨ سأل المحامي الأستاذ كريم بقرادوني الإمام عن صحته، فأجابه “صحتي جيدة والحمد لله، لكن فكري غير مرتاح فالمؤامرة على لبنان كبيرة، ومناعة اللبنانيين ضعيفة أمام مشاريع التقسيم والفتنة والتدويل، ولا خلاص للبنان بلا وحدة أبنائه وعدالة حكامه وعزيمة مقاوميه”.
لقد حصلت عملية خطف واخفاء الامام الصدر ورفيقيه في الوقت الذي كان يتعرض فيه لبنان لإعتداءات إسرائيلية متصاعدة، إضافة الى ما يعانيه من نزاعات عسكرية داخلية، ولا تشكل عملية الإخفاء هذه الحالة الوحيدة في العالم التي يتم فيها خطف وإخفاء أشخاص في دولة غير دولتهم، او خطف واخفاء أشخاص يمثلون بلادهم في الخارج، سواء كانوا يتمتعون بالصفة الدبلوماسية او السياسية، الاّ انها تشكل الحالة الوحيدة والفريدة في العالم التي يحصل فيها خطف وإخفاء أشخاص مدعويين بدعوة رسمية للقاء رئيس الدولة التي وجه لهم الدعوة(الرئيس الليبي الراحل معمر القذافي)، حيث شغلت هذه القضية الأوساط السياسية والقانونية منذ حصولها وحتى الآن. وقتذاك طلبت السلطات اللبنانية من السلطات الليبية إفادتها بشأن الحادثة، فأجابت بأن الإمام الصدر غادر الأراضي الليبية على متن طائرة إيطالية قاصدآ إيطاليا، لكن تم نفي هذا الأمر من قبل السلطات الايطالية، اذ ورد بموجب قرار صادر عن قاضي التحقيق في روما بتاريخ ١٩٨٢/١/٢٨ حرفيآ ما يلي: (ان التحقيقات الاضافية المعمقة التي أجريت عزّزت وأيدت الجزم بشدة نتائج التحقيقات السابقة وأفرزت أدلة ثبوت متطابقة لا يرقى إليها أدنى شك، وهي وفيرة جدآ بحيث يترتب الجزم بكل تأكيد أنه لم يرتكب أي جرم على أراضي الدولة الإيطالية بحق موسى الصدر ومحمد يعقوب وعباس بدر الدين، لأنه ثبت أن المذكورين لم يصلوا الى مطار فيومتشينو في ساعة متأخرة من ليل ١٩٧٨/٨/٣١، على متن طائرة إيطالية الرحلة (٨٨١) القادمة من طرابلس، وأن أشخاصآ آخرين غير معروفين انتحلوا شخصيات الأشخاص الثلاثة وزيفوا آثارآ لدخولهم واقامتهم على اراضي بلادهم)، وهذا يعني أن إخفاء الامام الصدر ورفيقيه هو عمل جرمي منظّم بامتياز ارتكبه النظام الليبي على الأراضي الليبية عمدآ وعن سابق تصور وتصميم وتخطيط، فما هو التكييف القانوني لهذا العمل الجرمي انطلاقآ من قواعد القانون الدولي؟بداية نشير الى أنه لا يوجد في القانون الدولي توصيف او تعريف لمفهوم التغييب، بل نجد حديثآ عن مفهومي الخطف والإخفاء. فالمعاهدة المتعلقة بالإرهاب والخطف المنبثقة عن الجمعية العامة لمنظمة الدول الأميركية عام (١٩٧١) اعتبرت في مادتها الثانية( ان الخطف والقتل وكل انتهاك للحياة، او لشخصية الافراد الذين كان على الدولة ان تؤمن لهم حماية خاصة، عملا بالقانون الدولي، وكذلك الابتزاز المرتبط بعملية الخطف، تشكل جريمة لها امتدادات دولية مهما كانت اسبابها).
كما ان المواد(٢٩) من معاهدة فيينا (١٩٦١) حول العلاقات الدبلوماسية والمادة (٤٠) من معاهدة فيينا (١٩٦٣) بشأن العلاقات القنصلية، والمادة (٤٠) من معاهدة نيويورك المتعلقة بحماية الاشخاص في المهمات الخاصة، نصت على انه لا يجوز التعرض للشخص الدبلوماسي ولا يمكن ان يتعرض للتوقيف والحجز، كما انه على دولة الاستقبال ان تقدم له كل الاحترام وتتخذ كل الاجراءات اللازمة من اجل منع كل تعد على شخصه وحريته وكرامته. الى جانب مفهوم الخطف وحجز حرية الشخص، يوجد في القانون الدولي مفهوم الاختفاء القسري، وأصل هذا المصطلح هو من اللغة الأسبانية لأن استعماله جاء أساسآ لوصف حالات خطف المعارضين السياسيين والتخلص منهم دون معرفة مصيرهم في بعض دول أميركا اللاتينية التي تتكلم معظمها الأسبانية، والمصطلح هو (المختفون) الذي يعني الناس الذين تم إخفاؤهم. وسبق للمحكمة الاميركية لحقوق الانسان واستنادا الى الاتفاقية الاميركية بشأن الاختفاء القسري، ان نظرت في قضايا الاختفاء القسري، واصدرت احكامآ بها، واهمها قضية(ديلغادو وسنتانا) التي نظرت بها المحكمة في كانون الاول عام (١٩٩٥) ، وهي اول قضية اختفاء قسري تنظر فيها المحكمة ضد كولومبيا، حيث شملت القضية النظر في اختفاء (إيزيدرو ديلغادو وزميلته ماريا سنتانا) من قبل مجموعة عسكرية تابعة للحكومة الكولومبية، فأصدرت المحكمة أحكامآ بإدانة المتهمين واعتبرت ان مقترفي هذه الجرائم هم عملاء الدولة. ان جريمة الاختفاء القسري هي من الجرائم الحديثة في القانون الدولي، ولم يذكر الاعلان العالمي لحقوق الانسان لعام (١٩٤٨) الاختفاء القسري بشكل صريح، وانما أكد على حق الحياة والحرية والأمن وعدم التعرض للتعذيب، لكن نظرآ لهذه الظاهرة الخطيرة، فإن الجمعية العامة للأمم المتحدة تنبهت لها وعبّرت في قرارها رقم ١٧٣/٣٣ تاريخ ١٩٧٨/١٢/٢٠ عن قلقها بشان التقارير الواردة حول حالات الإختفاء القسري في دول عديدة في العالم، وتعبيرا عن اهتمامها الشديد بهذه الظاهرة أصدرت الجمعية العامة (إعلان حماية جميع الأشخاص من الإختفاء القسري) في العام (١٩٩٢) الذي ورد في ديباجته أن ( الممارسة المستمرة لأعمال الإختفاء القسري تعد جريمة ضد الإنسانية)، ونص في المادة الثانية منه على أن الاختفاء القسري يحرم الشخص الذي يتعرض له من حماية القانون، وينزل به وبأسرته عذابآ شديدآ، كما اعتبرت المادة الأولى منه أن الإختفاء القسري يشكل انتهاكآ خطيرآ لحقوق الانسان والحريات الاساسية التي وردت في الاعلان العالمي لحقوق الانسان.نذكر من هذه الحقوق والحريات: الكرامة الانسانية، الحق في الحياة الكريمة، الحق في الحرية والسلامة الشخصية، الحق في التنقل، الحق في الحياة العائلية…ولأن عمليات الإختفاء القسري لا يحميها القانون مهما كانت الظروف والأسباب، أقرت الجمعية العامة للأمم المتحدة بتاريخ (٢٠/ كانون الأول/ ٢٠٠٦) الإتفاقية الدولية لحماية جميع الاشخاص من الإختفاء القسري، حيث ورد في المادة الثانية منها: ان الاختفاء القسري هو الاعتقال أو الاحتجاز او الخطف أو أي شكل آخر من الحرمان من الحرية من قبل عملاء الحكومة او اشخاص أو مجموعات من الأشخاص يعملون ضمن تفويض أو دعم أو تغاضي الدولة، بحيث يتبع ذلك رفض الاعتراف بالحرمان من الحرية او اخفاء مصير او مكان الشخص المختفي، مما يضع مثل هذا الشخص خارج نطاق حماية القانون.فالإختفاء القسري هو عمل تقوم به دولة ما أو مجموعات تابعة لها يؤدي الى إختفاء المحتجز دون أن يتمكن الناس من معرفة مصيره. وبالتالي المقصود بالإختفاء القسري القبض على شخص محدد أو اختطافه رغمآ عن إرادته، ثم إخفاء مكانه أو رفض الافصاح عن مصيره، وذلك من قبل أشخاص رسميين في الدولة أو على يد جماعات تعمل لحسابها او بإذن منها او موافقتها، فلا يمكن أن يحصل دون قرار على مستوى الدولة بالتنفيذ او بالموافقة، فرغم ان الاختفاء القسري هو عمل يكون بمعرفتها وبعلمها وموافقتها إلاّ أنها تنفي معرفتها بمكان الضحية ولا تعترف بمسؤولية هذا الإختفاء. ان هذه العناصر المكونة لجريمة الاختفاء القسري متوافرة جميعها فيما يتعلق بجريمة خطف وإخفاء الامام الصدر ورفيقيه، مما يجعلها جريمة إختفاء قسري، والى جانب كونها كذلك فإن النظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية الدائمة(١٩٩٨) عدد في المادة السابعة منه الجرائم ضد الانسانية كالقتل العمد والابادة وايضا يذكر من ضمنها اعمال الاختفاء القسري.ان المسؤولية عن عملية إخفاء الإمام الصدر ورفيقيه تقع على عاتق الدولة المضيفة، الا في حال أثبتت هذه الدولة انها بذلت كل امكانياتها لمنعها، وهذا أمر لم يحصل، وهي جريمة مستمرة باستمرار مرتكبيها في التكتم عن مصيرهم ومكان اخفائهم، مما يرتب مسؤولية جزائية بالنسبة لمرتكبيها، بالاضافة الى المسؤولية المدنية للدولة مع عدم الاخلال بمسؤوليتها الدولية.
*استاذ محاضر في الجامعة الاسلامية في لبنان والجامعة اللبنانية