كتبت صحيفة “نداء الوطن” تقول: تحت عنوان “انفجار مرفأ بيروت: لماذا لم يُحاسب أي مسؤول لبناني حتى الآن؟”، اختصرت قناة “يورونيوز” الجواب على هذا السؤال بعبارة تشخّص بالمختصر المفيد مكمن العلة والداء في الجسم القضائي اللبناني، فأوردت في تقريرها عن مستجدات القضية وأسباب تعطيل التحقيق العدلي أنّ “النخبة الحاكمة في لبنان تتمتع بنفوذ كبير على القضاء لأن كثيرين من القضاة يدينون للسياسيين بالفضل في تعيينهم في مناصبهم”، مذكرةً بأنّ “كثيرين من المسؤولين اللبنانيين، من بينهم الرئيس السابق للجمهورية ميشال عون ورئيس الوزراء حينذاك حسان دياب، كانوا على علم بأمر شحنة المواد الكيماوية (نيترات الأمونيوم التي انفجرت في المرفأ في 4 آب 2020) مع الإشارة إلى تأكيد منظمة “هيومن رايتس ووتش” أنّ “مسؤولين أمنيين وحكوميين كباراً توقعوا وجود خطر كبير على الحياة (جراء تخزين الشحنة في المرفأ) وقبلوا ضمناً احتمال حدوث وفيات” ربطاً بالسماح بتخزين النيترات والمخاطرة بإمكانية انفجارها في العاصمة.
ولعلّ ادعاء المحقق العدلي على النائب العام التمييزي القاضي غسان عويدات لمسؤوليته أيضا في قضية النيترات في المرفأ، كان الدافع الأبرز وراء هجمة عويدات المرتدة على القاضي طارق البيطار فسارع إلى تجريده من صلاحياته في القضية، بدءاً من منع الأجهزة الأمنية من تنفيذ قراراته بالادعاء والاستدعاء وإخلاء السبيل، مروراً بإطلاق جميع الموقوفين على ذمة التحقيق العدلية والادعاء على البيطار وطلب منعه من السفر، وصولاً بالأمس إلى منع أي من موظفي النيابة العامة التمييزية استلام “أي ورقة” من المحقق العدلي، وإحالة نسخة من ادعائه عليه إلى هيئة التفتيش القضائي “لإجراء المقتضى“.
وأمام إصرار عويدات على المضي قدماً في إجراءاته “غير القانونية” ضد البيطار بإجماع رأي الخبراء القانونيين ومن بينهم مدعون عامون سابقون في النيابة العامة التمييزية، انتفض أهالي ضحايا انفجار المرفأ أمس ضد محاولة “أسْر العدل” ومنع العدالة من أخذ مجراها القضائي والقانوني للوصول إلى كشف الحقيقة وراء الانفجار ومحاسبة المرتكبين، فكانت المواجهة محتدمة أمام مداخل قصر العدل نتيجة قرار واضح بقمع الأهالي وسحلهم والتصدي بـ”الخبيط واللبيط والهراوات” لاحتجاجهم، بينما تولّى حراس وزير العدل هنري الخوري ضرب النواب المتضامنين مع أهالي ضحايا 4 آب داخل قصر العدل، في سابقة وضعها النواب المعتدى عليهم في خانة “النظام الميليشياوي” الذي تسعى السلطة إلى تكريسه في حكم البلد.
وتحت وطأة المستجدات الميدانية المتسارعة، قرر مجلس القضاء الأعلى إرجاء اجتماعه الذي كان مقرراً أمس إلى موعد لاحق بانتظار “تهدئة الشارع” درءاً لـ”سقوط دم” وفق ما أوضح عويدات، مع تشديده على ضرورة أن يعمد رئيس المجلس القاضي سهيل عبود إلى تعيين موعد آخر للاجتماع بغية التجاوب مع كتاب وزير العدل لتدارس الدراسة القانونية التي استند إليها المحقق العدلي في استئناف مهامه في التحقيق بجريمة انفجار المرفأ.
ونتيجة ما بلغه الجسم القضائي من تخبط وانقسام بين أعضائه، برز تداعي مجلس نقابة المحامين إلى عقد اجتماع طارئ أمس خلص إلى إعلان “عدم الثقة بقسم من القضاء لم يعد يثق بنفسه ويتهجم على بعضه البعض”، واصفاً في هذا السياق ما حصل في ملف التحقيق العدلي في قضية انفجار 4 آب جراء القرارات التي اتخذها النائب العام التمييزي بأنه “قتل للضحايا في قبورهم”، وأكد المجلس إزاء ذلك أنّ عويدات تجاوز صلاحياته وخرق القانون لأنه لا يملك حق اتخاذ “أي قرار أو إجراء في الملف”، مشدداً “في ضوء هذا الوضع الخطير والمشهد القضائي المأزوم الذي أثر ويؤثر على حقوق المتقاضين والمحامين”، على أنه “يجب على القضاة إحترام قسمهم لإعادة سير مرفق العدالة لتفادي اللجوء إلى تحقيق دولي مستقل وحيادي بغية الوصول إلى كشف الحقيقة الكاملة في قضية إنفجار المرفأ التي أصبحت قضية رأي عام وموجباً قانونياً على السلطة وحقاً لذوي الضحايا والمتضررين”. كذلك طالب “نادي القضاة” عويدات بوقف اجراءاته المخالفة للأصول بغض النظر عما إذا كان القاضي بيطار محقاً في قراره.
في الغضون، انعكست حالة انعدام التوازن في كل مناحي البلد ارتفاعاً صاروخياً بسعر صرف الدولار الذي خرق سقف الـ60 ألف ليرة فبات الهامش بين تسعيرة منصة “صيرفة” وسعر السوق الموازية نحو 37 % تقريباً، وهو أعلى هامش منذ إطلاق المنصة في أيار من العام 2020، لذا يجد مصرف لبنان نفسه هذه الأيام أمام عدة خيارات أحلاها مرّ.
أولاً، أمامه إمكان زيادة ضخ الدولارات على المنصة، لعل وعسى ينخفض السعر في السوق الموازية، وتهدأ قليلاً تقلبات أسواق الإستهلاك، لكنه سبق وجرّب ذلك عدة مرات، ولم تدم النتيجة المرجوة طويلاً، ليعود الدولار الى الصعود المتتالي. المصرف المركزي قبيل وبعيد بداية العام الحالي ضخّ نحو 1,6 مليار دولار بسعر 38 ألف ليرة للدولار على المنصة، فانخفض سعر الدولار في السوق الموازية من 48 إلى 42 ألفاً، ثم عاد ليرتفع بقوة من جديد بعد أيام قليلة عندما هبط متوسط الضخ على المنصة من متوسط أكثر من 150 مليون دولار يومياً إلى أقل من 50 مليوناً، وآنذاك كان مصرف لبنان جمع دولارات وفيرة انفقها المغتربون العائدون لقضاء عطلتي الميلاد وراس السنة في لبنان، أما إذا أراد الآن العودة إلى ضخ أكثر من 150 مليون دولار يومياً، فإنه حتما سيلجأ الى استخدام احتياطي العملات الأجنبية لديه، والذي هو عملياً ما تبقى من أموال المودعين.
الخيار الثاني وهو رفع سعر المنصة من 38 ألف ليرة الى مستوى معين يقلص نسبة الفارق مع السوق الموازية من 37% الى أدنى من 20%، بيد أن ذلك سيعطي إشارة سلبية إضافية للأسواق، مفادها ان مصرف لبنان يلهث وراء السوق الموازية، ولن يستطيع مطلقاً ضبطها، وبالتالي سيقرأ المضاربون والمتعاملون هذه الخطوة كعجز هيكلي يشي بالأسوأ، فيرتفع سعر الدولار أكثر.
وكان لافتاً أمس كيف ان عدة قطاعات مثل المحروقات والأدوية تسعى الى اللحاق بالسوق الموازية أولا بأول، ما يعني التسعير أكثر من مرة يومياً كلما ارتفع سعر الدولار بألفين أو ثلاثة آلاف أو أكثر كما حصل منذ بداية الأسبوع الحالي. وهذا مؤشر على أن مرحلة التضخم المفرط لم تعد بعيدة.. مرحلة خطرة جداً يدخلها لبنان ويتحول معها الى فنزويلا كما كان متوقعاً منذ العام 2020 عندما أجهضت خطة الإصلاح التي وضعتها حكومة حسان دياب. أما خطة حكومة نجيب ميقاتي فكأنها غير موجودة ولا تجد طريقها للتنفيذ، ما يجعل الآتي أعظم على اللبنانيين في ظل انسداد الآفاق وسوداوية المستقبل القريب والبعيد.