كتبت الدكتوره سنا الحاج* في قراءتها لرواية الشاعر والكاتب نعيم تلحوق “أرض الزئبق” الصادرة عن دار فواصل للنشر، 2022:
إنزلاق المعنى
رواية كانت، أم مذكرات غامضة، أم سيرة ذاتية، أم فلسفة معقّدة تحاول الإجابة على إشكاليات الحياة والكون والإنسان، لا يهم إذ جاءت كلها تحت عنوان واحد يختصر الروايات والتسميات هي: “أرض الزئبق”
قرأت روايتك السيرية وتعبتُ من شدة كثافتها وموضوعاتها ومصطلحاتها الشائكة والعميقة في الذات والتي ما ان أبدأ بحل إحداها حتى أعلق بإشكالية اخرى وسؤال جديد..
كيف استطعت أن تركض خلف كل هذه الاسئلة لتخط رؤيتك؟ وفي كم اتجاه سعيت في آن معاً؟
هل استطعت أن تفرغ نفسك محاولاً الوصول إلى خلاصك والحقيقة؟
هل وصلت؟ وما الذي جعلك تسبح في هذا الفلك الوجودي؟
لا اعتقد أنك وصلت ولن تصل.. لم ولن تستقر طالما أرضك وترابك وإنسانك، وحقيقتك، ووجودك، حتى اللغة، والمعنى، ومعنى المعنى .. ولؤى أيضاً .. كلها قائمة على عنوان سيرتك .. على: “أرض الزئبق” وكلها كالزئبق التي لن يدعك تلمسه أو تمسك به أو تستقر عليه..
لماذا حاولت إذن ؟؟ وأنت تعرف أنها أرض الزئبق حين خاطبت “لؤى” في الصفحة 125، وقلت لها :” يبدو إننا خلقنا كي لا نفهم شيئاً أبداً … إنها أرض الزئبق يا حبيبتي” …
إذن هل مذكراتك هذه كتقرير نيكوس كزنتزاكيس اليوناني في سرديته “تقرير إلى غريكو” والتي قيل عنها أنها تندرج تحت السيرة الذاتية، أو اليوميات، والرواية والمذكرات و… إنه الرواي الذي كان يدعو الله أن يمدّ في عمره حتى ينتهي من تفريغ نفسه، محاولاً الوصول إلى الخلاص عبر تقديم تقريره إلى جده المتوفي.
وأنت هل قررت على الستين من عمرك أن تفرغ نفسك التي اشتعلت بأسئلة الحياة والموت؟ ولمن توجه تقريرك هذا قبل أن “تغادر مسرج الجريمة الكونية”؟؟
لقد طرقتَ أبواب الشعراء والفلاسفة والمتصوفين وأنت تبحث عن مفتاح “المخلوق المفتاح” وبكل الاهتزاز الفكري والخوف والقلق دخلت الشرق والغرب، ابتداء من الفلسفة اليونانية سقراط وافلاطون، إلى الفلسفة الغربية هايدغر وشيلر ونيتشه، والعلماء نيوتن وغيره.. إلى الشعراء الجاحظ وابن الرومي، ابن الفارض، المتنبي وطه حسين وديك الجن الحمصي ومحمد الماغوط ووو.. إلى الفلاسفة المسلمين ابن رشد وابو حيان التوحيدي، ابن خلدون، والمعتزلة، واتجهت إلى الصين عند كونفوشيوس فيلسوف الأخلاق، وعدت معرّجاً ومشدداً على “المجنون” انطون سعادة..
فهل وجدت المفتاح بعد كل هذا العناء والنصب في رحلتك الطويلة؟ هل عرفت من أنت؟ وأنت الحريص على بقاء اسئلتك نظيفة كي لا تستحم بالأجوبة الوسخة (ص: 79).
هل حصلت على إجابات ؟ لا إجابات (ص: 40) وبقيت الاسئلة مفازة لا تنتهي أبداً (ص:66). وفي النهاية عدت إلى عدمك ولم تصل إلى خلاصك وحقيقة وجودك، وحتماً سقطت على غير طائل (ص:124).
هل وجدت إنسانك؟
لقد رأيتك من خلال أرض الزئبق مثل “ديوجين” الرافض لكل ما كان يقيد حريته، وأنت تحمل مصباحك وتتجول في شوارع روايتك التي لم تكتمل، من: الرواية رؤيا إلى ذاكرة التراب والرحلة نحو المجرة إلى المعنى في بلاغته وشجرته وبياضه وآفاته وثباته، إلى طريق التعب وشغف اللغة وعبثيتها، إلى جسد المعنى وسقوطه ومعنى المعنى وسكونه، وأنت تبحث عن إنسان في وضح النهار تماماً كما قلت بأن “الاورام البشرية جعلتك تحتار في إنسانيتك، والانسانية شيء آخر لا علاقة له بالمفهوم الحيواني المدعوة غريزة… فليس كل بشري إنساناً، وقلت الأنسنة مشروع حياة لا تكسر المبادئ والقوانين وإنما المبادئ والأنظمة تكسر نفسها لحاجة إنسانيتها وليس العكس…” ص: 39
نعم، فالناس كثيرون والإنسان قليل، والبشري يصير إنساناً، فهل هو هذا نفسه الإنسان الذي كان يبحث عنه ديوجين؟ ربما لأنه عندما سألوه من أنت ومن أين أتيت؟ أجابهم بأنه مواطن عالمي.. والذي أُعجب به ميشيل فوكو وكتب عنه في كتابه خطاب لا يعرف الخوف واصفاً إياه “بشجاعة الحقيقة” محاولاً أن يؤسس مفهوماً بديلاً للنضال والثورة من خلال قراءته لديوجين والسخرية.
قلت لك يا صديقي أن موضوعاتك كثيرة في روايتك التي لم تكتمل، في كل الأحوال سأسلط الضوء على الإنسان الذي تسعى إليه ..”أنا البشري الوحيد الذي يسعى إلى إنسانيته، إنسان بسيط يسعى إلى كمال شغفه..” ص: 96. وهنا ظهرت نزعتك الإنسانية وأخذت منحى تطوير إنسانية الإنسان من البشر مع “محمد أركون” مخترع مصطلح الأنسنة كتعريب للمصطلح الأوروبي الذي حاول السعي إلى إمكانية تحقيق نزعة إنسانية كونية تشمل جميع أفراد الجنس البشري بغض النظر عن أصولهم الجغرافية، أو الدينية أو المذهبية، أو العرقية، أو اللغوية، وعدم الاعتراف إلا بالانسان في كل زمان ومكان.
وقد توافقت مع المفكر “علي شريعتي” الذي قال: أن كل فرد من أفراد النوع البشري إنساناً بمقدار معين، وبأن البشر “كينونة” بينما الإنسان “صيرورة” أي البشري يسعى ليرتقي ويصير إنساناً.
وتوافقت بالتمام والكمال مع المفكر الثوري الذي وصفته بـ”المجنون” انطون سعادة الذي قال أن الوجود الإنساني لا يتحقق أو يكتمل إلا عن طريق النشاط الهدفي للإنسان، وعن طريق هذا النشاط وحده يتمكن الإنسان من أنسنة وجوده.
فالنتيجة كما يتضح أنك حتما مع الإنسان الكلي المتعدد الأبعاد، والبشري ذو النزعة الإنسانية الذي تطلبه وتسعى لتصير إليه.. مقابل ما جاءت به البنيوية وممثليها واتجاهاتها، المنهج البنيوي الذي أطلق على ممثليه بـ “تيار فلسفة موت الإنسان” منهم هيدغر، ليفي ستروش، وميشيل فوكو، حين بشّروا بموت هذا الإنسان واستبعدت مفاهيم أساسية عن الإنسان مثل مفهوم النزعة الإنسانية، وأكدت مفاهيم أخرى كالنسق.. أو بناء يعلو على الإنسان، وتجعله عاجزاً عن التحكم في نشأته وحياته، منهج بنيوي نازع نحو إلغاء الذات.
أخيراً .. وزيادة في الاسئلة التي لن ترشدنا إلى أي مكان: لماذا كل هذا الشقاء في كتابة روايتك التي لم تكتمل على أرض الزئبق الذي لا قرار لها ولا لأسئلتك الشائكة، هل سعيك إلى كمال إنسانك يصلك إلى خلاصك وحقيقتك دون عناء وألم وتشظي لذاتك المتكثرة؟ أم أن الذات البشرية سرّها في شقائها ولن تستطيع مطلقاً أن تبلغ مرحلة الاتزان أو التطابق مع الذات؟
أنت هنا عالق بجسدك، بانتظار من يطير بروحك إلى أمكنة لا تفهمها.. بانتظار لؤى التي تعرفك ولن تعرفها أنت …
*سنا الحاج: دكتراه بالفلسفة – رئيسة دائرة الدراسات والبحوث في مديرية الدراسات والمنشورات اللبنانية في وزارة الاعلام