“لا صوت يعلو فوق صوت الحرب” على الساحة العالمية، ولبنان ليس استثناءً في استحضار الانعكاسات المتأتية عنها على ساحته الداخلية، اقتصادياً ومالياً وغذائياً وسياسياً… فأرقام الموازنة العامة لم تعد تطابق حسابات الواقع المستجد من ارتفاع في الأسعار العالمية للمواد الحيوية من قمح وغاز ومشتقات نفطية، والتخندق الدولي بين جبهتي الغرب وموسكو سرعان ما عمّق الشروخ على الأرضية الحكومية المتشقّقة وزادها تصدّعاً وتناحراً بين أركان الحكم والحكومة التي أثبتت في أكثر من محطة واستحقاق أنّ نزعتها السلطوية التحاصصية وضعتها على بُعد أميال ضوئية من مدار الإنقاذ والإصلاح.
ولأنّها عملياً باتت أعجز من إحراز أي هدف إنقاذي في الفترة القصيرة الفاصلة عن الاستحقاق النيابي في أيار المقبل، فقد تحول واقعياً إجراء الانتخابات في موعدها الإنجاز الوحيد المنشود من الحكومة وسط محاولات يائسة يبذلها أركان العهد وتياره لوضع مطبات قانونية ومالية وتقنية تفرض إرجاء الاستحقاق، مقابل ميل “حزب الله” إلى اقتناص لحظة يأس الناس وتشرذم صفوف قوى المعارضة والتغيير في سبيل توسيع رقعة سطوته البرلمانية، عبر إقفال ساحته وتعزيز حضور حلفائه على ساحات الطوائف الأخرى، سواء بسعيه الحثيث إلى تأمين رافعة تحالفات لـ”شقل” حظوظ “التيار الوطني الحر”، أو بهجمته الشرسة لتقاسم المقاعد الدرزية مع وليد جنبلاط، أو بانقضاضه الشره على “الصحن السنّي” إثر عزوف “تيار المستقبل”، والرهان على انكفاء سنيّ عن الساحة الانتخابية يُعلي منسوب التصويت لصالح مرشحي سُنّة 8 آذار في بيروت والمناطق، بما يعزز فرصة تكليف شخصية سنّية من المحور الممانع بتشكيل الحكومة المقبلة… لكن في المقابل، استرعى الانتباه أمس إطلاق دار الفتوى دعوة بدت أشبه بـ”تكليف شرعي” لأبناء الطائفة السنية يحضّهم على واجب الإقبال الانتخابي الكثيف… ونزول “الجميع الجميع” إلى صناديق الاقتراع.
وإذ عدّد مآثر الطبقة الحاكمة التي “أطاحت في سنوات قليلة بكل ما أنجزه اللبنانيون خلال قرن” وتتلطى اليوم خلف نظرية “المؤامرات”، للتغطية على ما اقترفته من “حملات تدمير واحتلال المدينة واغتيال الناس ونهب المال العام وانهيار المصارف على رؤوس المودعين وأموالهم، ودفع ألوف اللبنانيين الأكفاء إلى الهجرة، والإطباق على مميزات لبنان في الجامعة والمستشفى والمدرسة والميناء والمطار والجهاز القضائي”، لفت مفتي الجمهورية الشيخ عبد اللطيف دريان إلى أنه بعد ذلك كلّه “لم يبق قائماً إلا الميليشيا والطبقة السياسية التي ارتكبت هذا التخريب الفظيع للدولة والمجتمع ولعلاقات لبنان العربية والدولية”، محذراً من خطورة الأجواء التي تشيعها “الجهات المهيمنة” بقولها إنها “ستفوز ولا شيء سيتغيّر”، بوصفه كلاماً “المراد به التيئيس والاستمرار في فرض الأمر الواقع وهو تخريب محض“.
وبما أنّ “الانتخابات هي سبيل التغيير”، خصّص المفتي دريان حيزاً وازناً من رسالته أمس، لمناسبة ذكرى الإسراء والمعراج، بغية حثّ الناخبين الراغبين بإحداث التغيير إلى عدم “التردد والحيرة”، والإقبال على “التصويت الكثيف” لأنه يجسد “رسالة أمل ورجاء وإيمان بمستقبل الوطن والدولة”، ونبّه في المقابل إلى أنّ هناك خشية من أنّ يعمد “كل من يريد شراً بلبنان داخلياً وخارجياً” إلى استغلال الشوائب التي تشوب الأجواء على الساحة اللبنانية، خصوصاً وأنّ “الخطر يداهمنا ويغزو مؤسساتنا الرسمية والخاصة (…) ونحن أمام استحقاقات عديدة في طليعتها الانتخابات النيابية وصولاً إلى الانتخابات الرئاسية“.
تزامناً، استمرت تداعيات إدانة وزارة الخارجية اللبنانية للاجتياح الروسي للأراضي الأوكرانية بالتفاعل بين مؤيد ومناهض لهذا الموقف، بينما عمد السفير الروسي في بيروت ألكسندر روداكوف إلى قلب مفاهيم العمل الديبلوماسي ومعاييره، فكاد أن يستدعي وزير الخارجية اللبنانية عبدالله بو حبيب إلى مقر السفارة الروسية للاحتجاج على موقف لبنان الرسمي إزاء الحرب على أوكرانيا، بعدما بدا في مؤتمره الصحافي أمس كمن يؤنب وزير الخارجية على بيانه “المنافي لمبدأ النأي بالنفس وغير المحايد الذي لم يراعِ المصالح المشتركة والعلاقات الثنائية العميقة والطويلة بين روسيا ولبنان”، وأردف متوعداً بمقولة: “في الأيام الصعبة نعرف من معنا ومن ضدنا“.
أما “حزب الله” فذهب أبعد من حدّ تأنيب بو حبيب، إلى مستوى تخوينه واتهامه بخدمة الأجندة الأميركية من خلال الموقف الذي اتخذه حيال الاجتياح الروسي لأوكرانيا، وبهذا المعنى برز على شريط التصريحات التي أطلقها مسؤولون في “حزب الله”، تساؤل الوزير السابق محمد فنيش: “على أي أساس استند وزير الخارجية في قراءته لما يجري في أوكرانيا ليعطي موقفاً هو في الحقيقة لا يخدم إلا الهيمنة الأميركية؟”، معتبراً أنّ وزارة الخارجية رضخت “تحت ضغط الإدارة والسفيرة الأميركية”، وخلص إلى التشديد على أنّ الموقف الذي اتخذه بو حبيب “مرفوض” من جانب “حزب الله”، ولا يعبّر عن رأي الحكومة لأنه “لم يُتخذ في مجلس الوزراء“.