كُرِّس الشاعر الكبير محمود درويش على أنّه رمزية إبداعية لا تموت، وأنَّه إنْ رحل جسداً، فهو باقٍ مُجسّداً بشاعر مبدع ومثقّف، كان جواز سفره شِعره، وكان لكلماته وقعٌ أشدَّ من الرصاص في مواجهة المحتل الإسرائيلي، كان ملتزماً بالقضيَّة التي امتشقها ودافع عنها حتى رحيله، وبقيت تؤرّق المحتل حتى الآن.
الحديث عن الشـاعر درويـش، لا يُمكن أنْ يفيَه حقَّه، فلم يكن واحداً في العدد، ولا رقماً في السياق، كان متفرّداً تُختزل به قضية بحجم شعب، حملها فآخت وجدانه، وتَمثَّلها فخالطت خلجات روحه، أعطاها نبض قلبه، فملكت عليه المجامع، وتجذَّرت في مراكز القرار لديه.
ثائراً كان، أشعل بالهمَّة الحروف، وجذّر في الكلمات قيامة الثورة، وأيّة ثورة، ثورة شعب غريب في وطنه، ومهاجر حتى في أبناء جلدته، ولاجئ حتى بين ظهراني قومه.
شعره كان ملتهباً، ولكنَّه ظلَّ على تماسٍّ بالقلوب.
منذ أنْ فتح عينيه على الوجود، لم يبصر إلا الموت والدمار والغربة، ورغم هذا السَّواد الذي كان يلفّ كلَّ شيء من حوله، ظلَّت بارقة الأمل تطلُّ من على صفحات كتبه ودواوينه، وتمارس حضورها البهيَّ عبر نغمات نفحاته الشعرية، كان شِعره أنيس المقاوم، ورديف الصامد، وظَلَّ بوصلةً تشير إلى كيف يكون الشِعر ملتزماً، والالتزام ركيزة تفضي إلى الحرية.
درويش المولود في البروة – قضاء عكا (بتاريخ 13 آذار 1942)، تفتحت عيناه وهو طفل لم يتم السابعة من عمره، على نكبة شعبه في العام 1948، فكان اللجوء إلى لبنان، الذي لم يطل، بل اقتصر على عام واحد، لأنّ الحنين كان يشدّه إلى وطنه السليب، فعاد إليه بعد توقيع اتفاقية الهدنة في العام 1949، ولكن كان الاحتلال قد هدم مسقط رأسه، وشيّد على أراضيها مستوطنة “أحيهود” وكيبوتس يسعور، فعاش متخفياً غريباً في بلده، محروماً من جنسية المحتل، وغير معترف به، وتلقّى التعليم الابتدائي في مدرسة دير الأسد – شمال بلدة مجد كروم في الجليل لفترة قصيرة، التي أقام فيها مع عائلته، قبل أنْ يبني جدّه منزلاً على تلة في قرية الجديدة – شمال غرب قريته الأم البروة، ليدرس المرحلة الثانوية في كفرياسيف، متعلّماً العربية والإنكليزية والعبرية، ثم الفرنسية.
بدأت تلمع ألمحية درويش الشعرية بتشجيع من أساتذته، فشكّلت قصائده حالة قلق للاحتلال الإسرائيلي الذي اعتقله مرّات عدّة منذ العام 1961، بتهم تتعلّق بنشاطه السياسي، وكتاباته ومؤلّفاته، قبل أنْ ينزح إلى مصر، ثم إلى لبنان.
تحوّلت قصائد درويش إلى شعلة وقود للثوّار، وساهم بتطوير الشعر العربي الحديث وإدخال الرمزية إليه، حيث تقرأ في ذات البيت، الغضب، والكبرياء، والشعور بالذات والثورة على الظلم.
وقد أثارت أعمال درويش الأدبية أزمة في الكيان الصهيوني، ليس آخرها منذ أيام عدّة، انتقاد وزير دفاع العدو المتطرّف أفيغدور ليبرمان، لأعمال درويش، واستدعاء رئيس إذاعة جيش الاحتلال الإسرائيلي، مؤنّباً وموبّخاً، على بث أبيات من قصيدة الراحل درويش “بطاقة هوية” في فقرة تعليمية عبر أثير الإذاعة.
وهذا يؤكد أنّ كلمات وأشعار وقصائد درويش، التي تُرجِم بعضها إلى العبرية، ما زالت ترعب الاحتلال حتى بعد رحيله.
ويثبت الصلف الإسرائيلي الذي لا يتقبّل الكلمة، فكيف السلام مع الشعب الفلسطيني؟!
الاحتلال المغتصب ضاق ذرعاً بقصائد درويش وأعماله، لأنّ وقع كلماته كان كما الرصاص، فمارس الاحتلال خبثه بعد أنْ أسلم درويش الروح في “مستشفى هيرمن” في هيوستن بولاية تكساس الأميركية (بتاريخ 9 آب 2008)، فمنع دفن جثمانه في مسقط رأسه البروة – داخل الأراضي الفلسطينية المحتلة في العام 1948، حيث ووري الثرى في مقر رام الله الثقافي في الضفة الغربية، بعدما وُضِعَتْ على الضريح كميات من تراب بلدته البروة.
وليس مصادفةً أنْ يكون مكان ضريح درويش على مقربة من ضريح الرئيس ياسر عرفات في مقر المقاطعة في رام الله، الذي منع الاحتلال أيضاً مواراة جثمانه الثرى في القدس الشريف، فأحضر تراب منها وضع تحت جثمانه.
وقد خُطّت أمام الضريح كلمات للراحل درويش قال فيها: “كان ياسر عرفات الفصل الأطول في حياتنا، وكان اسمه أحد أسماء فلسطين الجديدة، الناهضة من رماد النكبة إلى جمرة المقاومة، إلى فكرة الدولة، وفي كلّ واحد منا شيء منه”.
فسر العلاقة بين رمز الثورة وشاعرها متجسّدة، فدرويش وشفيق الحوت كانا من ضمن الذين أعدّوا نص خطاب الرئيس “أبو عمار” في أول دخول لقائد ثورة في العالم إلى “الأمم المتحدة” (بتاريخ 13 تشرين الثاني 1974)، ووضع درويش بصمته على الجملة التي أصبحت الأهم في الخطاب “أتيتُ إلى هنا حاملاً غصن الزيتون بيد، وبندقية المقاتل من أجل الحرية في الأخرى، فلا تدعوا غصن الزيتون يسقط من يدي”، وحينها مُنِحَتْ “منظّمة التحرير الفلسطينية” صفة مراقب في المنظمة الدولية.
ووضع نص وثيقة الاستقلال وإعلان قيام دولة فلسطين، خلال جلسة المجلس الوطني الفلسطيني التي عقدت في الجزائر (بتاريخ 15 تشرين 1988).
أصبح درويش والقضية الفلسطينية صنوان، فنال العديد من الجوائز، واستحق التكريمات، وارتبط ارتباطاً وثيقاً بالقضية الفلسطينية، كما إنّ النضال الفلسطيني مقترن بإسم درويش، الذي حفظه أبناء فلسطين، وكتبوا عنه، ورسمه أبطال فلسطين على أوراقهم المدرسية، وحتى على جدار الفصل العنصري، الذي فصل به الاحتلال المناطق الفلسطينية عن بعضها البعض.
وأضحت ذكرى ميلاد درويش، في 13 آذار من كل عام، يوماً للثقافة الفلسطينية.
تقف أمام ضريح الراحل درويش، الذي تسنّت لي زيارته الأولى في العام 2009 – أي بعد عام على رحيله – بخشوع لمَنْ حوّل كلماته إلى صواريخ وقنابل، شكّلت صدمة للمحتل الصهيوني، وقربه شُيّد متحف دُشّن في العام 2012، من تصميم المهندس جعفر طوقان، نجل الشاعر الفلسطيني الراحل إبراهيم طوقان، وهو ما يؤكد على التواصل الثقافي بين أجيال المثقفين الفلسطينيين.
وأنت تجول في المكان كل شيء يذكّرك بوجود درويش، من قصائده وكتاباته بخط يده ومقالاته، حيث تغوص مع مناضل كتب قصائده في شتى الظروف، ومنها حتى على علبة دخان داخل زنزانة الاعتقال أمام السجان الإسرائيلي: “أحن إلى خبز أمي.. وقهوة أمي.. ولمسة أمي”، فإذا به يرقد في حضن أمه فلسطين، بانتظار نقل رفاته إلى مسقط رأسه البروة بعد التحرير، في أرض يسجّل فيها “أنا عربي” و”أنّ على هذه الأرض ما يستحق الحياة”.
الحديث عن الشـاعر درويـش، لا يُمكن أنْ يفيَه حقَّه، فلم يكن واحداً في العدد، ولا رقماً في السياق، كان متفرّداً تُختزل به قضية بحجم شعب، حملها فآخت وجدانه، وتَمثَّلها فخالطت خلجات روحه، أعطاها نبض قلبه، فملكت عليه المجامع، وتجذَّرت في مراكز القرار لديه.
ثائراً كان، أشعل بالهمَّة الحروف، وجذّر في الكلمات قيامة الثورة، وأيّة ثورة، ثورة شعب غريب في وطنه، ومهاجر حتى في أبناء جلدته، ولاجئ حتى بين ظهراني قومه.
شعره كان ملتهباً، ولكنَّه ظلَّ على تماسٍّ بالقلوب.
منذ أنْ فتح عينيه على الوجود، لم يبصر إلا الموت والدمار والغربة، ورغم هذا السَّواد الذي كان يلفّ كلَّ شيء من حوله، ظلَّت بارقة الأمل تطلُّ من على صفحات كتبه ودواوينه، وتمارس حضورها البهيَّ عبر نغمات نفحاته الشعرية، كان شِعره أنيس المقاوم، ورديف الصامد، وظَلَّ بوصلةً تشير إلى كيف يكون الشِعر ملتزماً، والالتزام ركيزة تفضي إلى الحرية.
درويش المولود في البروة – قضاء عكا (بتاريخ 13 آذار 1942)، تفتحت عيناه وهو طفل لم يتم السابعة من عمره، على نكبة شعبه في العام 1948، فكان اللجوء إلى لبنان، الذي لم يطل، بل اقتصر على عام واحد، لأنّ الحنين كان يشدّه إلى وطنه السليب، فعاد إليه بعد توقيع اتفاقية الهدنة في العام 1949، ولكن كان الاحتلال قد هدم مسقط رأسه، وشيّد على أراضيها مستوطنة “أحيهود” وكيبوتس يسعور، فعاش متخفياً غريباً في بلده، محروماً من جنسية المحتل، وغير معترف به، وتلقّى التعليم الابتدائي في مدرسة دير الأسد – شمال بلدة مجد كروم في الجليل لفترة قصيرة، التي أقام فيها مع عائلته، قبل أنْ يبني جدّه منزلاً على تلة في قرية الجديدة – شمال غرب قريته الأم البروة، ليدرس المرحلة الثانوية في كفرياسيف، متعلّماً العربية والإنكليزية والعبرية، ثم الفرنسية.
بدأت تلمع ألمحية درويش الشعرية بتشجيع من أساتذته، فشكّلت قصائده حالة قلق للاحتلال الإسرائيلي الذي اعتقله مرّات عدّة منذ العام 1961، بتهم تتعلّق بنشاطه السياسي، وكتاباته ومؤلّفاته، قبل أنْ ينزح إلى مصر، ثم إلى لبنان.
تحوّلت قصائد درويش إلى شعلة وقود للثوّار، وساهم بتطوير الشعر العربي الحديث وإدخال الرمزية إليه، حيث تقرأ في ذات البيت، الغضب، والكبرياء، والشعور بالذات والثورة على الظلم.
وقد أثارت أعمال درويش الأدبية أزمة في الكيان الصهيوني، ليس آخرها منذ أيام عدّة، انتقاد وزير دفاع العدو المتطرّف أفيغدور ليبرمان، لأعمال درويش، واستدعاء رئيس إذاعة جيش الاحتلال الإسرائيلي، مؤنّباً وموبّخاً، على بث أبيات من قصيدة الراحل درويش “بطاقة هوية” في فقرة تعليمية عبر أثير الإذاعة.
وهذا يؤكد أنّ كلمات وأشعار وقصائد درويش، التي تُرجِم بعضها إلى العبرية، ما زالت ترعب الاحتلال حتى بعد رحيله.
ويثبت الصلف الإسرائيلي الذي لا يتقبّل الكلمة، فكيف السلام مع الشعب الفلسطيني؟!
الاحتلال المغتصب ضاق ذرعاً بقصائد درويش وأعماله، لأنّ وقع كلماته كان كما الرصاص، فمارس الاحتلال خبثه بعد أنْ أسلم درويش الروح في “مستشفى هيرمن” في هيوستن بولاية تكساس الأميركية (بتاريخ 9 آب 2008)، فمنع دفن جثمانه في مسقط رأسه البروة – داخل الأراضي الفلسطينية المحتلة في العام 1948، حيث ووري الثرى في مقر رام الله الثقافي في الضفة الغربية، بعدما وُضِعَتْ على الضريح كميات من تراب بلدته البروة.
وليس مصادفةً أنْ يكون مكان ضريح درويش على مقربة من ضريح الرئيس ياسر عرفات في مقر المقاطعة في رام الله، الذي منع الاحتلال أيضاً مواراة جثمانه الثرى في القدس الشريف، فأحضر تراب منها وضع تحت جثمانه.
وقد خُطّت أمام الضريح كلمات للراحل درويش قال فيها: “كان ياسر عرفات الفصل الأطول في حياتنا، وكان اسمه أحد أسماء فلسطين الجديدة، الناهضة من رماد النكبة إلى جمرة المقاومة، إلى فكرة الدولة، وفي كلّ واحد منا شيء منه”.
فسر العلاقة بين رمز الثورة وشاعرها متجسّدة، فدرويش وشفيق الحوت كانا من ضمن الذين أعدّوا نص خطاب الرئيس “أبو عمار” في أول دخول لقائد ثورة في العالم إلى “الأمم المتحدة” (بتاريخ 13 تشرين الثاني 1974)، ووضع درويش بصمته على الجملة التي أصبحت الأهم في الخطاب “أتيتُ إلى هنا حاملاً غصن الزيتون بيد، وبندقية المقاتل من أجل الحرية في الأخرى، فلا تدعوا غصن الزيتون يسقط من يدي”، وحينها مُنِحَتْ “منظّمة التحرير الفلسطينية” صفة مراقب في المنظمة الدولية.
ووضع نص وثيقة الاستقلال وإعلان قيام دولة فلسطين، خلال جلسة المجلس الوطني الفلسطيني التي عقدت في الجزائر (بتاريخ 15 تشرين 1988).
أصبح درويش والقضية الفلسطينية صنوان، فنال العديد من الجوائز، واستحق التكريمات، وارتبط ارتباطاً وثيقاً بالقضية الفلسطينية، كما إنّ النضال الفلسطيني مقترن بإسم درويش، الذي حفظه أبناء فلسطين، وكتبوا عنه، ورسمه أبطال فلسطين على أوراقهم المدرسية، وحتى على جدار الفصل العنصري، الذي فصل به الاحتلال المناطق الفلسطينية عن بعضها البعض.
وأضحت ذكرى ميلاد درويش، في 13 آذار من كل عام، يوماً للثقافة الفلسطينية.
تقف أمام ضريح الراحل درويش، الذي تسنّت لي زيارته الأولى في العام 2009 – أي بعد عام على رحيله – بخشوع لمَنْ حوّل كلماته إلى صواريخ وقنابل، شكّلت صدمة للمحتل الصهيوني، وقربه شُيّد متحف دُشّن في العام 2012، من تصميم المهندس جعفر طوقان، نجل الشاعر الفلسطيني الراحل إبراهيم طوقان، وهو ما يؤكد على التواصل الثقافي بين أجيال المثقفين الفلسطينيين.
وأنت تجول في المكان كل شيء يذكّرك بوجود درويش، من قصائده وكتاباته بخط يده ومقالاته، حيث تغوص مع مناضل كتب قصائده في شتى الظروف، ومنها حتى على علبة دخان داخل زنزانة الاعتقال أمام السجان الإسرائيلي: “أحن إلى خبز أمي.. وقهوة أمي.. ولمسة أمي”، فإذا به يرقد في حضن أمه فلسطين، بانتظار نقل رفاته إلى مسقط رأسه البروة بعد التحرير، في أرض يسجّل فيها “أنا عربي” و”أنّ على هذه الأرض ما يستحق الحياة”.
صحيفة اللواء