لمحة تاريخية: اللبنانيون أسياد البحار وامبراطورية مترامية الأطراف
“أسألكم أن تذكروا على الدوام أن هناك على شاطيء البحر المتوسط وطناً لنا يستحق أن يكون من خيرة أوطان الناس، وأن في إمكانكم أن تساعدوا ليكون كذلك.”
بهذه العبارات أشار أمين الريحاني الى أهمية لبنان الوطن في عالم المهجر.
الانتشار اللبناني كان منذ ان وجد لبنان، فالتاريخ يذكر كيف عمل اللبنانيون الاوائل في التجارة عبر البحار، وأسسوا المستعمرات والمحطات لتجارتهم هذه ومنها اوروبا وقرطاجة… وهنا ينقل الكاتب سليم نصار عن رئيس “زيمبابوي” روبرت موغابي ان معنى اسم بلاده يعني “بيت من الحجر” وهو يرمز الى بيت بناه الفينيقيين بخلاف البيوت التي يشيدها ابناء البلاد آن ذاك من القش والطين، ويشير نصار الى انه زار هذا البيت ووجد قرائن تشير الى وجود طرقات برية وبحرية اقامها الفينيقيون في افريقيا قبل انتقالهم الى جزيرة سردينيا الاسبانية وقرطاج وباليرمو في جزيرة صقلية وملقة في اسبانيا وطنجة في المغرب، وما ظاهرة القائد الفينيقي هنيبعل الذي هدد روما في قرطاجه في تونس سوى شاهد على الامبراطورية الاقتصادية والعسكرية التي اسسها ابناء صور وصيدا في افريقيا.
صحيح أن الهجرة قديمة قدم التاريخ لكنها مع اللبنانيين لها حكاية أخرى، لأنها تلازمت مع حياتهم منذ مئات السنين، تلازماً وسم تاريخهم بكثير من الحنين لأرض الوطن ولعل البيت الشعري الشهير لرشيد أيوب “ياثلج قد هيجت أشجاني ذكرّتني أهلي بلبنان” يعبّر بعمق عن هذا الحنين؛ ولم يكن الحنين وحده أنيس المغترب اللبناني في هجرته الى القارات البعيدة؛ فالحماسة، والعزم، والارادة؛ كلها مفردات انغرست معانيها على حقيقتها على دروب الاغتراب اللبناني، حباً باكتشاف المجهول القادمين عليه وسعياً وراء بناء مستقبل ناجح لم تتوفر شروطه في أوطانهم. وقد وصف فيليب حتي، البدايات الاولى للاغتراب اللبناني في كتابه لبنان في التاريخ قائلا: “كان معظم الرواد المهاجرين أناساً فقراء معدمين أميين يجهلون لغة البلاد التي كانوا يأتونها، وكانوا يلاقون ضروباً من الشقاء، ويكابدون أنواعاً من شظف العيش، وكان الواحد منهم يحمل صندوقاً خشبياً صغيراً فيه طرائف وبضائع من البلاد المقدسة وقطع قماش مطرزة، وقد يصبح أحد هؤلاء الباعة المتجولين بعد حين تاجراً يستورد ويورد وينشيء المكاتب الكبرى في مختلف القارات.”
وقد ظل اللبناني يكابد وعورة الهجرة متنقلاً من بلد الى بلد حتى قيل أنه قلما يوجد بلد في العالم لم تطأه قدم إنسان من لبنان في الأميركيتين الشمالية والجنوبية، في مجاهل أفريقيا وفي كل قطاعات أسيا، في الجزر المنثورة في البحور والأوقيانوسات.
هكذا بكل بساطة حطّ اللبناني رحاله؛ واقتنص رزقه متحدياً المناخات ووحوش الغابات.
الفقر والمكابدة امتزجا معاً في رحلة الاغتراب الأولى في بدايات القرن التاسع عشر، فكان جلّ المهاجرين من الفئات الفقيرة وغير المثقفة يعملون في الزراعة والتجارة وغيرها؛ مع مطلع القرن العشرين ظهرت هجرة نوعية، حذفت من قاموسها مفردات “الفقر والامية” لكنها تمسكت بمفردات المكابدة والعناء لأنهما يجللان دروب المهاجرين أميين كانوا أو مثقفين، فقراء كانوا أو متوسطي الحال.
وقد تمثلت هذه الهجرة الجديدة في مجموعة 26 خريجاً من الجامعة الأميركية في بيروت ووصلت الى الولايات المتحدة سنة 1906 ثم مالبثت أن لحقت بها مجموعات أخرى من المثقفين والأدباء، على غرار المجموعات التي ذهبت الى مصر؛ فتأسست حلقات أدبية ذات منحى سياسي لبناني أشهرها على الاطلاق الرابطة القلمية التي كان من أبرز وجوهها جبران خليل جبران وأمين الريحاني وميخائيل نعيمة، وقد أسهمت بشكل فعال في النهضة الأدبية الحديثة من جهة، وفي نشر روح الاستقلالية عند اللبنانيين المغتربين وفي نشر قضية لبنان في المحافل الدولية من جهة أخرى بسبب التطورات الاقتصادية والسياسية التي حصلت في لبنان فكانت الهجرة بحدّ ذاتها محطَّ مراقبة لكثيرٍ من المحللين والباحثين منذ نعومة أظافرها، منهم من رأى فيها منفعة، ومنهم من اعتبرها تُفقِد البلاد من مواردها البشرية. وسنحاول في هذا الملف قدر المستطاع أن نسلط الضوء على حركة الهجرة اللبنانية منذ بداياتها:
– كيف جرت رحلة الاغتراب ؟
– أين توزع المغتربون ؟
– ما هي مآثرهم ودورهم؟
– في المقابل ما هي واجبات الدولة التي تحفظ لهم هذا الدور؟
ونلفت الى أهمية الأرقام والاحصاءات التي ترصد حركة الهجرة اللبنانية لكننا لن نتوقف عندها توقف المتشائم الخائف، فالمغترب اللبناني رغم اقتلاعه من تربة الوطن وانغراسه في شوكة المجتمع الاغترابي، لم يفقد هويته الوطنية ولا صِلاته الإجتماعية أو الإنسانية بجذوره وخاصة عند الملمات والشدائد. وتمكنوا من توسيع رقعة الوطن الجغرافية وتوثيق عرى الصداقة بين بلدان الاغتراب والوطن الأم، فأوصلوا بالسياسة صوت لبنان الى مركز القرار في الدول المضيفة، أما في المجال الاقتصادي، فيمكننا القول أن الاغتراب اللبناني ساعد المقيمين اللبنانيين مادياً في أحلك الظروف وساهم في النهوض الاقتصادي من كبواته المتعددة وقد ذكر البنك الدولي أن المغتربين اللبنانيين حوّلوا الى لبنان خلال عام 2006 ما مجموعه 6.5 مليارات دولار أميركي بينما بلغت مجموع صادرات لبنان خلال الفترة نفسها 2.4 مليارات دولار، يكفي أن ننظر الى هذه الأرقام كدليل على الامكانات المتوفرة لدى الاغتراب اللبناني ومدى استعداداتهم لمساعدة وطنهم الأم في حال استقرت الأوضاع، أما السيئات فتندرج ضمن تأثير الهجرة على التركيبة السكانية واستزافها للموارد البشرية ما يُفقد لبنان نسبة كبيرة من شبابه ويؤخر عجلة التنمية ويؤدي الى تغيرات ديموغرافية، في حين أن لبنان بحاجة ماسة الى بعض القوى العاملة المتخصصة.
اعداد: مديرية الدراسات والمنشورات اللبنانية – وزارة الاعلام