أشهرٌ ستّة مرّت على استقالة حكومة الرئيس حسّان دياب، بعد الانفجار الذي هزّ العاصمة اللبنانية بيروت، لتعلنَ بذلكَ مدينة منكوبةً.
لعلَّ انفجارَ مرفأ بيروت كانَ فاتحةَ الأحزانِ اللبنانية، ومفتاحَ الطريقِ إلى الانهيارِ المتوقّعِ، صحّيًّا وأمنيًّا، اقتصاديًّا واجتماعيًّا.
وفي الوقتِ الذي كانَ الوطنُ فيه أحوجَ ما يكونَ إلى حكومةِ إنقاذٍ حكيمةٍ وقادرةٍ، تمَّ الاتفاقُ بالأكثرية النيابية على تسمية الرئيس سعد الحريري، رئيسًا مكلّفًا بتشكيلِ حكومةِ “مهمة” وإنقاذٍ تبدد مخاوف اللبنانيينَ وترفعُ عنهم شبحَ الفقرِ والجوع، وقد تمَّ ذلكَ في شهرِ تشرينَ الأول، من العامِ المنصرم.
ليستِ المرّةَ الأولى التي يطولُ فيها تأليفُ الحكومةِ اللبنانية، فقد تعوّدَ اللبنانيُّ. حكوماتٌ لم تبصر النورَ لاعتذارِ رؤوسائها المكلفين عن مواصلة التأليف، وحكوماتٌ وئدت حيّةً لتحملَ على عاتقها ذنبًا لم ترتكبهُ إنّما تفاجأت بهِ، وأخرياتٌ عُرقِلَت بسببِ اقتتالٍ على مقعدٍ هنا ووزارةٍ هناك، واللبنانيُّ يطلبُ الرحمةَ وينتظرُ الخلاص.
منذُ السّابعِ عشرَ من تشرين الأول، من العام 2019، بدأت عجلةُ الانهيارِ بالإسراعِ بالجمهوريّةِ نحوَ الحَافّة. حجزٌ على أموالِ المودعينَ في كافةِ المصارفِ المحلّية، ارتفاعٌ تدريجيٌّ لسعرِ صرفِ الدولارِ وغيابُهُ في السوق، يقابلهُ تدهورٌ غيرُ مسبوقٍ لقيمة العملةِ الوطنية، تبعَه ارتفاعٌ خانقٌ في أسعارِ السلعِ والخدمات، خصوصًا تلك المستوردةُ من الخارج. احتكارٌ من بعضِ التجّارِ للسلعِ الغذائية الأساسية، وعرضها بعدَ ذلك بأسعارٍ خياليّةِ في السوق، واللبنانيُّ المجبرُ على الشراءِ هو الضحيّةُ والقربانُ، إن صحَّ التعبير.
وقد سُجّل ارتفاعٌ لسعر صرف الدولار إلى 10,000 ل.ل. في السوق السوداء، وهي سابقة لم يشهد لها لبنان مثيلًا حتّى في سنوات الحرب اللبنانية.
وفي موضوع الدولار وعلاقة التأليف بسعر الصرف، يقول الخبير الاقتصادي نسيب غابرييل للوكالة الوطنية للإعلام بأن السوق السوداء هي مؤثر أساسي في ارتفاع سعر صرف الدولار، في ظل غياب الرقابة الجادّة على هذه السوق، ويؤثر عليه أيضًا التجاذبات السياسية والجمود في الشأن الحكومي، إذ يشير الخبير إلى أنهُ “عندما تم تكليف الرئيس سعد الحريري بتشكيل الحكومة تراجع سعر الصرف الفي ليرة، وعندما طال موضوع التشكيل عاد وارتفع سعر الصرف. ومنذ ثلاثة اسابيع كانت هناك بوادر لتشكيل الحكومة عندها تراجع سعر الصرف، وبعدما ارتفعت حدة الخطاب السياسي بدءًا من شباط الماضي عاد سعر الصرف ليرتفع”.
وزارةُ الاقتصادِ في حكومةِ تصريفِ الأعمال لا خطة جديّةً لها على صعيدِ مراقبة المحتكرينَ من التّجار، ولا قدرةَ لها على لجم ارتفاعِ أسعارِ السلعِ الغذائيةِ في المحالِّ والتعاونيات، ولا حتّى دعم الطّحينِ كسابقِ عهدها في ذلك، حتّى بلغ سعرُ ربطة الخبز 2500 ل.ل، بعد أن كان سعرها 1500 ل.ل، مطلع العام 2020، وبناءً على المخاوف من ارتفاعٍ مقبلٍ لسعر الرغيف، تقدمَ نقيب أصحاب الأفران علي ابراهيم بالاستقالة من منصبهِ، إلا أنَّ رئيس اتحاد نقابات الأفران والمخابز لم يوافق على طلبه، داعيًا وزير الاقتصاد إلى تحمّل مسؤولياتهِ.
تستقيلُ حكومةُ الحريري تحت ضغط الشارعِ عام 2019 ليكلّفَ دياب بالمهمة، مهمةُ إنقاذِ ما يمكنُ إنقاذهُ، لتستقيلَ حكومةُ الأخيرَ تحتَ ضغطٍ آخر (انفجار المرفأ)، ويعودُ اللبنانيُّ معَ تكليف الحريري مجددًا إلى نقطة الصفر، نقطةُ انتظارِ التأليف، ومواصلةِ العيشِ على أملٍ بانقضاء الأزمة، وعودة الحياة إلى طبيعتها.
وفي الأثناء، بينما يترك المواطنونَ لمصيرهم، مع حدٍّ أدنى للأجورِ بلغَ 72 دولارًا، يشير البنك الدولي إلى أنَّ 60% من سكان لبنان باتوا تحت خط الفقر عام 2020، 22% من هؤلاء تحت خطّ الفقر المدقع.
وخلالَ انتظارِ اللبنانيينَ تحسّنَ الحالِ لم يرأف وباءُ كورونا بحالهم، فزادَ وطأتهُ عليهم، حتّى حصدَ منهم أرواحًا، وأودَعَ أعدادًا ليست بقليلةٍ منهمُ المستشفياتِ التي بدأت تشكو هي الأخرى، من جهةٍ قلّة الدعمِ المادّيِّ وتردّي أحوالها الاقتصادية، ومن جهةٍ أخرى اكتظاظَ الأسرّةِ والغرفِ بالمصابين.
وبعدَ أن بلغت الإصاباتُ عددًا ألفيًّا من المواطنين والوافدين، عمدت وزارةُ الصحةِ في حكومة تصريف الأعمال إلى إستيراد اللقاحاتِ المختلفةِ من ألمانيا وأميركا وروسيا والصين، وقد بدأت التلقيحَ منذُ اسبوعين.
زيارات متكررة للرئيس المكلف بتشكيل الحكومة،لرئيس الجمهورية في قصر بعبدا، بالإضافةِ إلى زياراتٍ لدولٍ إقليميةٍ عديدةٍ، كجمهورية مصر العربية والجمهورية التركية ودولة الإمارات العربية، وليسَ من جديدٍ على الصّعيدِ الحكوميّ، وليسَ من بوادرٍ تعيدُ الأملَ إلى اللبنانيين، وتحرّكُ عجلةَ التأليفِ قبل الانهيار الكبير.
المجتمع الدوليُّ ممثلاً بصندوقِ نقدٍ دوليٍّ ينتظرُ تسليفَ حكومةٍ أمينةٍ تحظى بثقةِ المجتمع الدولي، قادرةٌ على الإصلاح وتطبيقِ مقررات المبادرة الفرنسية.
وفي هذا الصدد لفتَ الخبير الاقتصادي نسيب غابرييل في حديثه مع “الوطنية”، إلى أنَّ المصارف تسير وفق خطة عمل ضبابية، في ظلِّ عدم وجود سلطة تنفيذية لتجلسَ على طاولة الحوار مع صندوق النقد الدولي، وتخرجَ بخطة إصلاح تمويلية تحظى بثقة هذا الصندوق، كما وشدد على ضرورة تأليف حكومة سريعًا للتفاوض مع حاملي سندات اليوروبوند المحليين والخارجيين، خصوصًا وأنّ حكومة تصريف الأعمال الحالية التي تعسّرت العام الماضي عن سداد دين لبنان من هذه السندات، لم تفاوض هؤلاءِ ولم يعد لها سلطة لذلك.
كهرباءُ لبنان تنتظرُ حكومةً تستوردُ الفيول من الخارج بعد انتهاءِ عقدِ شركة “سوناطراك” المخولة بتزويد الدولة بالفيول، وبيوتٌ منسيةٌ تغرقُ في عتمتها، بعد سياسة التقنينِ القاسية التي تتبعها مصلحة الكهرباء، وأصحابُ المولّداتِ يهددونَ برفع التعرغة في أمدٍ ليس ببعيد. وفي هذا الإطار، وجّه اليوم محافظ بيروت مروان عبّود كتابًا إلى وزارة الاقتصاد والتجارة، يطلب فيهِ ضبط ارتفاع تعرفة المولدات الخاصة في بيروت، خصوصًا في ظل التقنين القاسي وارتفاع سعر صفيحة المازوت، وغياب الرقابة على أصحاب المولدات.
زد على هذا كلّه، تهديدُ المصرف المركزي بين الآونة والأخرى برفع الدعم كلّيًّا عن المنتجات المدعومة، إذ أنّهُ على وشك صرف كل ما في احتياطهِ الإلزاميّ من العملات الصعبة على الدواءِ والطحينِ والبنزين، “وما رايحة إلا عالمواطن”.
الوضعُ إذًا لا يحتملُ التلكّؤ، ولا المناكفاتِ السياسيّة، ولا تقديم الأعذار، فضلًا عن تقاذف المسؤوليّات، والمطالبةِ بأثلاثٍ معطّلة، وحكومةٍ تئنُّ بينَ 18 و20 او22 وزيرًا، تنتظرُ مع اللبنانيين نورًا في آخر النفق. هو الوقتُ إذًا، لتحمّل المسؤولية، ووضع مصلحةِ البلادِ أوّلًا وفوقَ أيِّ اعتبار، والاسراعِ في تأليفِ حكومةِ إنقاذٍ عتيدةٍ وقادرةٍ على مواجهةِ التحدّيات، وإلا فالانفجارُ الاجتماعيِّ آتٍ لا محالة.