في الذكرى المئوية الأولى لنشأة دولة لبنان الكبير يمكن وصف هذه النشأة بالحديثة نسبياً ، إلا أن لها جذوراً كيانية تطبع ماضي لبنان القريب وحاضره وتضع عليه بصماتها الطائفية والاجتماعية والسياسية ولواحقها من النفوذ الاقطاعي والدولي .وبالعودة الى الجذور الكيانية يظهر أن الصراعات الطائفية في جبل لبنان كانت تطغى على الصراعات القبلية والعشائرية والتراتبيةأوالطبقية الاجتماعية،لأن التصارع الإقليمي والدولي كان يفضّل تأمين مصالحه من خلال اعتماد السلاح الشامل المضمون، وهو السلاح التعبوي القائم على العصبية الطائفية.
فبعد فتنة العام 1841، كان الحل الذي تمّ فرضه على جبل لبنان هو تقسيمه إلى قائمقاميتين: شمالية وجنوبية، أو بالأحرى مسيحية ودرزية، إنما لم يستقرّ الحال، إذ توالت تباعًا فتن متنقّلة حصلت في الأعوام 1843 و1845 و1858 وصولاً إلى الفتنة الكبرى في العام 1860. وهذا الأمر يشير إلى أن ثورة طانيوس شاهين الاجتماعية التي حصلت في العام 1858 فشلت في توحيد السكّان حول مطالبها الإصلاحية الاجتماعية، بل أدّت بعد سنتين إلى فتنة 1860 الكبرى، وذلك نتيجة التصارع الداخلي بين الأكثرية الطائفية في كل من القائمقاميتين وبين الأكثرية الطائفية والأقلية الطائفية في كل قائمقامية، وكذلك نتيجة التصارع بين الباب العالي والدول الأوروبية الخمس (فرنسا وبريطانيا وروسيا والنمسا وبروسيا).
ثم نشأ نظام المتصرّفية الذي كان خليطًا من الاستقلال الداخلي مع مجلس إدارة محلّي مُوزّع طائفيًا، والحكم العثماني والنفوذ الأوروبي، أما جغرافيًا فكان يغطّي جغرافية القائمقاميتين، أي إن البقاع ووادي التيم والساحل كانت خارج جبل لبنان. وقضى نظام المتصرّفية بتقسيم جبل لبنان إلى سبعة أقضية- وردت تسميتها في النص الفرنسي بالمديريات “directoires”، وهي: الكورة والبترون وكسروان والمتن والشوف وجزين وزحلة، وبقي هذا النظام قائمًا حتى بداية الحرب العالمية الأولى، إذ عمدت السلطنة العثمانية إلى حلّه وحكمت جبل لبنان بشكلٍ مباشر.
- نشوء لبنان بعد الحرب العالمية الأولى واستقلال الجمهورية اللبنانية.
بعد الحرب العالمية الاولى وخروج العثمانيين من لبنان وباقي المنطقة العربية، دخلت فرنسا الى لبنان ليصبح تحت الانتداب الفرنسي. وفي أيلول من العام 1920 أعلن المفوض السامي لدولة الانتداب الفرنسي الجنرال غورو قيام “دولة لبنان الكبير” عاصمتها بيروت، اما العلم فكان عبر دمج علمي فرنسا ولبنان، وضمت ولاية بيروت مع أقضيتها وتوابعها (صيدا وصور ومرجعيون وطرابلس وعكار) والبقاع مع أقضيته الاربعة (بعلبك والبقاع وراشيا وحاصبيا) فاتسعت مساحته من 3500 كلم مربع الى 10452 كلم مربع وازداد سكانه من 414 ألف نسمة الى 628 ألف نسمة. وفي 23 أيار من عام 1926 أقر مجلس الممثلين الدستور وأعلن قيام الجمهورية اللبنانية. لينتخب بعدها شارل دباس كأول رئيس للبنان.
لم تعترف الحركة الوطنية السورية وممثلوها في لبنان من الزعماء السياسيين المسلمين، بالكيان اللبناني. وفي المفاوضات بين الحكومة الفرنسية والحركة الوطنية السورية في مطلع الثلاثينات، اشترطت فرنسا ان تسلم الحركة الوطنية السورية بالكيان اللبناني لقاء توقيع معاهدة تعترف فيها فرنسا باستقلال سوريا ولبنان. ولقد قبل ممثلو الحركة الوطنية هذا الشرط الأمر الذي أحدث تصدعا في صفوف السياسيين المسلمين “الوحدويين” في لبنان، وراح بعضهم “يتلبنن” مثل خيرالدين الاحدب والبعض الآخر يبحث عن صيغة للتوفيق بين ولائه “القومي العربي”، وبين اعترافه بالكيان اللبناني مثل رياض الصلح وبشارة الخوري.
ومن عام 1930 إلى عام 1943، راحت “صيغة” رياض الصلح/بشارة الخوري وغيرهم من طلاب الاستقلال ـ تتبلور، إلى ان تحولت إلى ما سمي بالميثاق الوطني اللبناني، وهو يقوم على المعادلة التالية: من أجل بلوغ الاستقلال، “على المسيحيين ان يتنازلوا عن مطلب حماية فرنسا لهم، وأن يتنازل المسلمون عن طلب الانضمام إلى الداخل السوري- العربي.”
ومع شعور اللبنانيين بأن الانتداب تحول الى احتلال، وفوز الشيخ بشارة الخوري برئاسة الجمهورية بتاريخ 21 ايلول 1943 وتأليف حكومة برئاسة رياض الصلح ضمت الى الصلح: كميل شمعون، حبيب أبي شهلا، عادل عسيران، الامير مجيد ارسلان وسليم تقلا، أعلن الاستقلال التام، وعمدت الحكومة الجديدة الى اعتماد اتفاق غير مكتوب بين المسيحيين والمسلمين، يعبر عن صيغة عيش مشترك بين اللبنانيين ضمن لبنان الحر المستقل. وقد انبثق هذا الميثاق من خطاب بشارة الخوري، ومن البيان الوزاري الذي ألقاه رياض الصلح أمام النواب.
وتضمن الميثاق المبادئ الآتية:
– لبنان جمهورية مستقلة ترفض الحماية الاجنبية او الانضمام الى أي دولة عربية.
– لبنان وطن لجميع اللبنانيين على تعدد طوائفهم ومعتقداتهم وهو جزء من العالم العربي.
– لبنان موطن الحريات العامة يتمتع بها اللبنانيون على أساس المساواة.
– يتخلى المسلمون عن المطالبة بالوحدة أو الاتحاد مع الشرق العربي، وفي المقابل يتخلى المسيحيون عن المطالبة بالحماية من الغرب الاجنبي.
في العام1949 عمد الرئيس بشارة الخوري إلى تجديد ولايته استناداً إلى المجلس النيابي الذي جرى انتخابه في 25-5- من العام 1947 والذي أمن الأكثرية لتعديل الدستور لصالح تجديد ولاية الرئيس وقد شهد عهد بشارة الخوري أحداث سياسية هامة منها :
- انتخابات نيابية مستفزة في 25-5-1947.
- ثورة القوميين السوريين الاجتماعين واعدام زعيمهم انطون سعادة في العام 1949 واعدام ستة من أعضاء حزبه تم اختيارهم من بين الطوائف الرئيسة .
- اغتيال الرئيس رياض الصلح .
- إنشاء الكيان الصهيوني في العام 1948 ولجؤ حوالي 150000 لاجئ فلسطيني إلى لبنان أي حوالي عشر سكانه في حينه .
- مشاركة لبنان في الحرب العربية الإسرائيلية التي نتج عنها توقيعه اتفاق الهدنة في رودس في 13-3 من العام 1949 .
- توقيع لبنان على معاهدة الدفاع العربي المشترك في العام 1950 ورفض الانضمام إلى سياسة الدفاع المشترك مع الغرب التي كانت تقوده بريطانيا .
- أما على صعيد السياسة الداخلية لم يبد عهد الرئيس بشارة الخوري الاهتمام المجدي في بناء مقومات دولة الاستقلال بل كان كثير الضعف خصوصاً في الميدان الاداري ويرى الدكتور كمال صليبي ، أن هذا ليس بمستغرب في بلاد سيطرت عليها المصالح العائلية والطائفية ثم إن الفساد في الإدارة اللبنانية لم يكن جديداً ، إنما كان موروثاً من عهود سابقة . وازدادت وطأته في عهد بشارة الخوري .
امتد عهد الرئيس بشارة الخوري تسع سنوات عمد فيها إلى الإكثار من تغيير الحكومات ، فبلغت 14 حكومة في عهده أي أن معدل عمر الحكومة حوالي سبعة أشهر وبالتالي غابت عن عهده الأعمال الاصلاحية وقدم استقالته في 18-9-1952.
عهد شمعون وتداخل السياسات الخارجية والداخلية .
في 22-أيلول من العام 1952 انتخب كميل شمعون رئيساً للجمهورية اللبنانية باجماع اسلامي -مسيحي وذلك بعد تنحي بشارة الخوري عن الحكم ،وقد كان شمعون على قدر كبير من العنف بالتعاطي مع خصومه السياسيين إذ عمد إلى إقصائهم ، وألف أول حكومة في عهده من خارج البرلمان مؤلفة من أربعة موظفين هم السفراء خالد شهاب كرئيس للحكومة ، موسى مبارك ، وسليم حيدر وجورج حكيم وحصل لها على صلاحيات استثنائية من المجلس النيابي مكنتها من اصدار قوانين بمراسيم اشتراعية في حقول الادارة والانتخاب .
تداخلت في عهده السياسة الداخلية مع السياسة الخارجية بشكل كبير خصوصاً بعد انتخابات 1953 النيابية وعرف عهده ازدهاراً مالياً اقتصادياً غير معتاد يعود في قسم منه إلى الفورة النفطية في المنطقة بخاصة في الكويت ، وقوة النشاط المصرفي في لبنان .أما أهم الأحداث السياسية فهي :
- العدوان الثلاثي على مصر في العام 1956 ورفض شمعون قطع العلاقات الدبلوماسية مع بريطانيا وفرنسا واستقالة الرئيس عبدالله اليافي من رئاسة الحكومة
- قبول الحكومة الجديدة برئاسة سامي الصلح وفي عضوية شارل مالك كوزير خارجية لمشروع ايزنهاور القائم على مبدأ ملء الفراغ حيث صدر بيان مشترك لبناني – أميركي في العام 1957 يعلن انضمام لبنان إلى المشروع الأميركي .
- قيام الوحدة المصرية – السورية بقيادة الرئيس جمال عبد الناصر في شباط 1958 .
- قيام الجبهة الوطنية المعارضة التي نشأت بعد انتخابات العام 1957 بالتمرد السياسي والشعبي المسلم في بداية صيف 1958.
- حصول انقلاب في بغداد أطاح بالملكية وبرئيس الوزراء نوري السعيد وسقوط حلف بغداد في 14-7 من العام 1958 .
المسار الاصلاحي في العهد الشهابي .
بعد ثورة العام 1958 استلم الرئيس فؤاد شهاب الحكم في لبنان وهو مصمم كل التصميم على بناء “دولة الاستقلال ككيان وكوطن لأن رأيه كان في تمام الوضوح وهو أن لبنان لم يتمكن من أن يشكل دولة بالمعنى الصحيح كما أنه لا يشكل أمة بمعنى الوطن ، وعليه رأى الرئيس فؤاد شهاب أن قيام دولة ينظر إليها اللبنانيون على أنها دولتهم تعطيهم حقوقاً وترعاهم الأمر الذي يؤدي إلى تنمية روح المواطنة فيهم ، وأن التنمية التي تربط أبناء الشعب بحياة مشتركة هي إحدى الوسائل الفعالة في السعي الصادق والهادف إلى صهر الشعب وتوعيته على وحدته ” وقد اعتمد الرئيس فؤاد شهاب منهج سياسة الإصلاح الشامل بدءً من الاصلاح الاداري ثم الاصلاح الاجتماعي مع التنمية والعدالة الاجتماعية وصولاً إلى تحقيق المواطنية لإعادة بناء شخصية المواطن مادياً ومعنوياً الأمر الذي يسهم في حسن اختيار الساسة وفق النظام البرلماني الديمقراطي السليم .
وقد شملت سياسة التنمية الشهابية المواطن كما شملت المؤسسات السياسية والدستورية وتطوير المؤسسات العامة بكل أنواعها ونشاطاتها ،
أبرز الخطوات التي اتخذها الرئيس شهاب في المجال السياسي كانت باعتماده سياسة خارجية مساعدة على الاستقرار الداخلي ليتسنى له العمل على تطوير مفهوم التنمية المؤسساتية .
- رفض الرئيس شهاب الأحلاف العسكرية .
- سحب لبنان من مشروع ايزنهاور .
- وأمن خروج القوات الأميركية من لبنان في 27-11- من العام 1958 .
- وجعل لبنان يشارك في مؤتمر الدول غير المنحازة في بلغراد في العام 1961 ،
- أما لجهة السياسة الداخلية فبدأ بعد أحداث ثورة العام 1958 بتحقيق المصالحة الوطنية وألف حكومته الفاعلة من الرئيس رشيد كرامي ممثلاًالثورة ، والشيخ بيار الجميل ممثلاً الثورة المضادة مع الحاج حسين عويني والعميد ريمون ادة تحت شعار “لا غالب ولا مغلوب ” .
لا غالب ولا مغلوب هو الشعار ذاته الذي لايزال يحكم صيغة العيش في لبنان حتى وقتنا الراهن وقيام دولة لبنان الحديث لا زالت في كل مقوماتها تنهل من الفكر الشهابي وتحتاج ربما إلى التجديد والتطوير وفق مفهوم ومتطلبات الدولة الحديثة .
المصادر :
- د. كمال صليبي ، تاريخ لبنان الحديث ، منشورات النهار 1996.
- نقولا ناصيف ، جمهورية فؤاد شهاب .
- عصام بكداش ، مسار الدولة اللبنانية في التطوير خلال عهود الرئاسة .
اعداد: وزارة الاعلام – مديرية الدراسات والمنشورات اللبنانية