تأتي إحتفالية مئوية لبنان الكبير الذي أعلنه الجنرال الفرنسي غورو من على درج قصر الصنوبر ببيروت في عام 1920، مثقلة بالحزن والأسى بسبب الكارثة التي حلت بعاصمته بيروت التي تئن تحت وطأة دمار غير مسبوق أصاب قلبها ومرفأها، ويزورها للمناسبة الرئيس الفرنسي ايمانويل ماكرون للمرة الثانية خلا ثلاثة اسابيع حاملاً بعض الأمال بمؤازرة لبنان ومساعدته للخروج من أزمة سياسية، إقتصادية تعصف به وتكاد تدمر كيانه في الذكرى المائة على تأسيس هذا الكيان.
هذا الكيان الوطن تلزمه القوة بوحدة الصف والكلمة بين ابنائه كي يصمد ويتطور فقد كان عرضة للحروب وعدم الإستقرار لوجوده في منطقة الشرق الأوسط الملتهبة وتحميله وزر الصراعات في المنطقة منذ الحرب العالمية الاولى ثم الثانية ومفاعيلها، وإقامة ما يسمى “دولة إسرائيل” العنصرية على حدوده الجنوبية وما نتج عنها من نشوء الصراع العربي الإسرائيلي وتهجير للشعب الفلسطيني في عام 1948 ، وكان لعدم استقرار هذا الوطن محطات أبرزها في عام 1958 ، والحرب الأهلية في عام 1975 ، والإعتداءات الإسرائيلية المتكررة عليه ابرزها في أعوام 1969 و1982 و2006 وغيرها .
من عهد المتصرفية الى لبنان الكبير
لم تكن أوضاع جبل لبنان مستقرة قبل قيام دولة لبنان الكبير بين المكونين الأساسيين : المسيحي والدرزي ، وقد أدى ذلك إلى صِدامات دامية بين الطرفين، تبعها تقسيم جبل لبنان إلى قائمقاميتين، واحدة مسيحية، وأخرى درزية، إلا أن هذا التقسيم لم يرض الفريقين، فكانت حرب 1860 الطائفية التي قضى فيها أعداد كبيرة من الطرفين وأفسحت هذه الكارثة المجال أمام فرنسا للتدخل، وأدت المحادثات إلى قيام “متصرفية جبل لبنان” المنفصلة إدارياً عن باقي بلاد الشام، والواقعة حينها تحت حكم “متصرف مسيحي غير لبناني يعيّنه السلطان العثماني من بين رعاياه الكاثوليكيين”.
وفي زمن هذه المتصرفية، إنتُخب البطريرك إلياس الحويك في مطلع العام 1899 في بكركي، وزار في عام 1905، السلطان العثماني عبد الحميد، الذي قلّده وساماً رفيعاً .
وينتهز البطريرك الحويك الفرصة ويسافر في عام 1919 إلى باريس ليحضر مؤتمر الصلح الذي انعقد بعد نهاية الحرب العالمية الأولى ، ويعود حاملاً بشائر “دولة لبنان الكبير”، ليترقب إعلان نشوء هذه الدولة في أول سبتمبر أيلول من عام 1920.
قصر الصنوبر الرمز والولادة
يستعد قصر الصنوبر قرب ميدان سباق الخيل في بيروت لإستضافة الحدث الكبير من احتفالية بعد 100 عام على إعلان هذا الكيان الوليد ، دولة لبنان الكبير في اليوم الأول من أيلول عام 1920 ، هذا القصر الفرنسي الملكية بطابعه الشرقي الصرف وقناطره التاريخية ، تزين أحد جدرانه لوحة زيتية من توقيع الفنان فيليب موراني تؤرخ لنشوء لبنان الكبير على يد “فخامة الجنرال غورو” كما تقول اللوحة المثبّتة على المدخل الرئيسي للقصر باللغتين الفرنسية والعربية.
ويشكل قصر الصنوبر رمزية تاريخية للوجود الفرنسي في لبنان والشرق بشكل عام ، وفي مراجعة تاريخية للإحاطة بالصورة بشكل أوضح ، فبعد نهاية الحرب العالمية الأولى وتقسيم المنطقة العربية التي شكلت تركة الدولة العثمانية المهزومة ، يتم انتداب فرنسا من عصبة الأمم لتولّي شؤون “سوريا الكبرى” وجبل لبنان، وفقاً لما جرى من تقسيمات للمنطقة ، وتعيين الجنرال جورج بيكو مفوضاً عن “المناطق العثمانية” في سوريا وفلسطين، لينتقل في تشرين الثاني نوفمبر من عام 1919 إلى بيروت، ويجعل من قصر الصنوبر مقراً للسلطة الفرنسية فيها .
توسيع حدود المتصرفية
وبعد إقرار الإنتداب الفرنسي على لبنان وسوريا وإتخاذ الإجراءات اللازمة لجعل هذا الإنتداب أمراً واقعاً ، وبعد معركة ميسلون في 22 تموز يوليو 1920 أصبحت كل من المنطقتين الشرقية الغربية (سوريا ولبنان) في قبضة الفرنسيين ، وهكذا مهدت الطريق أمام الجنرال غورو لإعادة تنظيم المنطقتين سياسياً وإدارياً .
وإبتدأ غورو بلبنان فأصدر في 31آب أغسطس 1920 مرسوماً بضم بيروت والبقاع ومدن طرابلس وصيدا وصور وملحقاتها الى متصرفية جبل لبنان وجعلها جميعاً دولة واحدة ، وفي اليوم التالي (أول أيلول) أعلن غورو قيام دولة لبنان الكبير كدولة مستقلة تحت الإنتداب الفرنسي ” (تاريخ لبنان الحديث – كمال الصليبي ص 209) واقفاً على درج قصر الصنوبر ، وأمام قناطر مدخله، ووسط البطريرك الياس الحويك ومفتي بيروت الشيخ مصطفى نجا، وأمام أعيان البلاد، وتزامن هذا الإعلان مع القضاء على استقلال “الدولة العربية” في سوريا التي حاول الأمير فيصل إبن الشريف حسين إقامتها على أنقاض ما تبقى من الدولة العثمانية في المشرق العربي .
وقد استعاد الرسام فيليب موراني هذا الإعلان التاريخي في لوحة ملونة تزين جدار قصر الصنوبر ، ويظهر فيها المفوض السامي الجنرال غورو في ظل الأعلام الفرنسية ، رافعاً ذراعه إلى الأعلى ، بينما يقف البطريرك الماروني بالقرب منه محتلاً وسط الصورة، ويظهر في الصورة كذلك مفتي بيروت في الطرف المقابل بلباسه الأسود وعمامته البيضاء. وخلف الجنرال غورو، يقف أربعة أساقفة، يتميّز كل منهم بلباس خاص، وهم رؤساء الطوائف المسيحية الذين حضروا الإحتفال. وحول الجنرال ورجال الدين، إصطف عند جانبي مدخل القصر حشد كبير من المدعوين. بحسب الصحافة التي رافقت الحدث ، وتمّ هذا الإعلان التاريخي بحضور شخصيات لبنانية مسيحية وإسلامية وفرنسية، وعدد من أعيان البلاد، على رأسهم إميل إده وحبيب باشا السعد.
وتوسعت حدود لبنان الصغير ليصبح قابلاً للحياة ، ولتشمل صيدا وصور ومرجعيون وطرابلس وعكار والبقاع مع أقضيته الأربعة، وباتت بيروت عاصمة لهذه الدولة التي التي حملت علماً مماثلاً للعلم الفرنسي بألوانه الثلاثة ، الأزرق والأبيض والأحمر، إضافة إلى أرزة في الوسط .
كانت أصداء الإعلان في سوريا سيئة ورافضة ، فقد رفضت الحركة الوطنية السورية وأنصارها في لبنان، الإعتراف بالكيان اللبناني الوليد ، ودخلت المنطقة في صراع داخلي إستمر حتى مطلع الثلاثينيات حين اشترطت فرنسا على الحركة الوطنية السورية الإعتراف بالكيان اللبناني قبل التوقيع على معاهدة تقرّ فيها بإستقلال دولتي سوريا ولبنان.
وفي “السنة الثالثة للبنان الكبير”، نشرت جريدة “المعرض” في سبتمبر أيلول 1923 رسماً يمثل “الأمير فخر الدين المعني أول لبناني أوجد لبنان الكبير” إلى جانب صورة تمثل “الجنرال غورو أول فرنسي أعلن دولة لبنان الكبير”. وقبلها، في مطلع ذلك العام، نقلت الجريدة كلمة حول “لبنان الصغير والكبير” ألقاها البطريرك الحويك في احتفال أقيم في ذكرى جلوسه على كرسي بكركي.
رأى البطريرك في كلمته :” أن لبنان الكبير يجمع بين لبنان القديم ولبنان الجديد، ولبنان القديم هو جبل لبنان، البلد الذي تقلبت عليه القرون الكثيرة بإضطهادها ومخاطرها فإجتازها كلها محافظاً على استقلاله بفضل العناية الصمدانية وببسالة قومه ووطنيتهم، فلم يخسر نعمة استقلاله على الرغم مما عاناه من المصائب، بل ظل متمتعاً بها وظلت عناية الله تحرسه في كل حين”.
ومن كلمة البطريرك الحويك أيضاً : “أما لبنان الجديد، فهو لبنان الكبير الذي انتدبته فرنسا المنتدبة، وقد تعهدت أن ترعاه بعين ساهرة، وهذا أمر لا ريب فيه”.
المصادر والمراجع :
============
تاريخ لبنان الحديث : كمال الصليبي – دار النهار
جريدة المدن الإلكترونية
موسوعة ويكيبيديا
إعداد : وزارة الاعلام – مديرية الدراسات والمنشورات اللبنانية