لولا اقتراح وزير المال علي حسن خليل إقرار الموازنة العامة بمرسوم، وفق المادة 86 من الدستور، لكانت جلسة مجلس الوزراء، أمس، كما سابقاتها، مجرّد مناسبة لتكرار مواقف مكوّنات الحكومة من المسائل المالية العالقة، ولا سيما تسوية حسابات الدولة وسلسلة الرواتب والإجراءات الضريبية. الكل على موقفه، فيما الشهية مفتوحة على الإنفاق والوضع المالي يزداد تدهوراً
أبرز ما ورد في التقرير هو الآتي: «عدم إقرار الموازنة منذ سنة 2005 إلى اليوم، يشكّل أبرز الثغرات في أداء المالية العامة، ويمثّل تحدياً جدياً للحكومة في عملها لإرساء القواعد القانونية للمالية العامة، وقد أدّى غيابها إلى مشاكل كثيرة في عملية الإنفاق ونقل الاعتمادات من الاحتياط وفتح باب الطلبات بطريقة عشوائية لزيادة اعتمادات وزارات وإدارات بطريقة لا تضبط الإجراءات وفق الأصول، هذا بالإضافة إلى غياب الدور الأساسي للموازنة في أن تعكس رؤية الحكومة في التنمية والاستثمار. وقد قامت وزارة المال بإعداد مشاريع الموازنة لعامي 2015 و2016 وقدّمتها إلى مجلس الوزراء في المهلة الدستورية قبل نهاية آب من العام الذي يسبق، وطلبت مناقشتها وإقرارها، وأرسلت كتاب تذكير لممارسة الحق الدستوري في إصدارها بمرسوم في حال لم يقرّها المجلس النيابي في المهلة الدستورية».
كلام خليل كان كافياً للإشارة إلى الأسباب التي دفعت رئيس مجلس الوزراء تمام سلام لعرض الوضع المالي على جدول أعمال مجلس الوزراء. ففي ضوء المطالب المتزايدة من الوزارات والإدارات لزيادة الإنفاق من دون أي إجراءات لزيادة مصادر تمويل الخزينة، أصبحت وزارة المال في وضع حرج إزاء «جفاف» الخزينة الناجم عن انخفاض الإيرادات وزيادة النفقات. وبالتالي بات على وزارة المال التعامل مع المطالب بتشدّد أكبر سرعان ما ازدادت وتيرته مع ارتفاع منسوب القلق الذي لاح في سلوك مصرف لبنان، إذ نفذ أخيراً إجراءات جديدة لرفع احتياطاته بالعملات الأجنبية خوفاً على ثبات سعر الصرف، انطوت على عمليات استبدال واسعة لسندات بالليرة بأخرى بالدولار بهدف تجميع العملات الاجنبية لديه.
هذه العمليات حققت أرباحاً فورية للمصارف بقيمة بلغت مليار دولار، بحسب حاكم مصرف لبنان رياض سلامة، إلا أنها ساهمت في المقابل في رفع مستوى سيولة المصارف بالليرة. الآن يجري البحث في امتصاص هذه السيولة عبر سندات الخزينة التي تصدرها وزارة المال، إذ أبلغ سلامة جمعية المصارف في الاجتماع الشهري الاخير أن وزارة المال تدرس إمكانية إصدار سندات خزينة طويلة الأجل «لامتصاص السيولة المتبقية»، أي إنها ستزيد الدين العام بهدف تعقيم سيولة المصارف، وهو ما سيتيح الإنفاق بمستوى أعلى في حال صدرت قوانين من مجلس النواب في هذا الشأن.
بحسب التقرير الذي وزّعه خليل على الوزراء، فإن مشروع موازنة 2016 يقدّر النفقات بنحو 22933 مليار ليرة مقابل إيرادات بقيمة 16185 مليار ليرة، أي إن العجز يبلغ 6748 مليار ليرة. أما بالنسبة إلى احتياط الموازنة فقد لحظ مبلغ 1580 مليار ليرة، ولم يبق منه سوى 173 مليار ليرة، في مقابل احتياجات تبلغ 1113 مليار ليرة، أي أن مجلس الوزراء مضطر إلى اللجوء الى مجلس النواب مجدداً لإصدار قانون استثنائي لفتح اعتمادات إضافية بهذه القيمة، في ظل عدم إقرار مشروع الموازنة.
يشير التقرير إلى أن العجز المالي ما زال مرتفعاً وأدّى إلى ارتفاع مستويات الدين العام (المصرّح عنه) إلى 139% من الناتج المحلي الإجمالي في 2015 مقارنة مع 131% في 2012. ورغم أن تحويلات الخزينة إلى مؤسسة كهرباء لبنان قد تراجعت بسبب انخفاض أسعار النفط (المبالغ التي تدفعها الخزينة لتغطية العجز في مؤسسة كهرباء لبنان)، إلا أن النفقات ارتفعت بنسبة 12% بين 2012 و2015، منها 5% خلال 2015 وحدها.
في المقابل، سجّلت الإيرادات انكماشاً أدى إلى استمرار مشكلة تنامي العجز رغم انخفاض أسعار النفط. «فقد تراجعت معظم المصادر الرئيسية للإيرادات الضريبية خلال الفترة الممتدة بين 2010 و2015، وذلك يعود إلى تدهور الوضع الاقتصادي، إذ تدهورت إيرادات ضريبة القيمة المضافة خلال السنوات الماضية، وتراجعت إيرادات الرسوم الجمركية».
ويلفت التقرير إلى أن النفقات الاستثمارية لا تمثّل سوى نسبة 8.4% من النفقات العامة، في حين ان دفعات الفائدة «تستنزف الخزينة، إذ تشكّل 45% من إيرادات الدولة في 2015، وهي من الأعلى في العالم». وتحلّ هذه الدفعات محلّ نفقات استثمارية وإنفاق اجتماعي «كما تسهم في إسراع تفاقم الدين العام، فالخزينة سجّلت فوائض أولية 12 مرة في السنوات الـ15 الأخيرة، غير أن الدين بقي على ارتفاع بسبب دفعات الفائدة… وقد سجّلت نفقات خدمة الدين العام ارتفاعاً تدريجياً خلال السنوات الخمس الماضية لتبلغ نسبتها 23% بين عامي 2012 و2015، نظراً إلى ارتفاع مستوى الدين العام».
في غمرة هذا الوضع، لعب وزير المال ورقة كانت مرفوضة حتى الآن. اقترح خليل إقرار الموازنة بمرسوم، أي وفق المادة 86 من الدستور، التي تنصّ على إمكان إصدار الموازنة بمرسوم، ولكن بشروط يجدر الالتزام بها؛ فالمادة المذكورة تعالج مسألة عدم بتّ مجلس النواب مشروع الموازنة في مهلة أقصاها نهاية كانون الثاني، «فلمجلس الوزراء (في هذه الحال) أن يتخذ قراراً، يصدر بناءً عليه عن رئيس الجمهورية مرسوم يجعل بموجبه المشروع بالشكل الذي تقدم به إلى المجلس مرعياً ومعمولاً به. ولا يجوز لمجلس الوزراء أن يستعمل هذا الحق إلا إذا كان مشروع الموازنة قد طرح على المجلس النيابي قبل بداية عقده بخمسة عشر يوماً على الأقل».
التصريحات التي خرجت بعد جلسة مجلس الوزراء شدّدت على «ضرورة إقرار الموازنة». أما في داخل الجلسة فقد جرى نقاش هذه «الضرورة» انطلاقاً من العقد التي عرقلت إقرارها منذ آخر قانون للموازنة صدر لعام 2005 (صدر في عام 2006!). فقد بات معروفاً أن تيار المستقبل يعرقل إقرار قانون الموازنة من دون إيجاد تسوية للإنفاق غير المقونن الذي قامت به حكومة الرئيس فؤاد السنيورة بين عامي 2006 و2009، أو ما يُعرف بقضية «الـ11 مليار دولار». وبات معروفاً أن الصراع الذي دار تحت عنوان هذه القضية ساهم في إعادة فتح الحسابات المالية للدولة منذ عام 1993، إذ تبين أن هناك مشكلة جوهرية في هذه الحسابات تمنع ديوان المحاسبة من الموافقة عليها نهائياً، وجرت العادة أن يصادق مجلس النواب على قطع الحسابات بناءً على موافقة الديوان المؤقتة بانتظار التدقيق في الحسابات وتنظيمها. لم يصادق مجلس النواب على أي قطع حساب يعود إلى ما بعد سنة 2003، وهذه عقدة أساسية، إذ ينص الدستور وقانون المحاسبة العمومية على عدم جواز إقرار قانون الموازنة إلا بعد تصديق قطع حساب السنة التي تسبق سنة إقرارها (على سبيل المثال إن إقرار قانون موازنة عام 2017 في المهلة الدستورية، أي في أواخر عام 2016، يقتضي قطع حساب سنة 2015 حتماً).
مصادر وزارية أوضحت لـ«الأخبار» أن النقاش في الجلسة، أمس، حاول تجاوز هذه العقدة باستعادة طرح المادة 86 من الدستور، أي إقرار الموازنة بمرسوم، إلا أن هذه المصادر أشارت الى أن حسم الأمر يبقى بيد رئيس مجلس النواب نبيه بري، وعبّرت عن اعتقادها بأنه مستعد للسير في هذا الخيار في حال جرى التوافق عليه، ولا سيما أن الطرح جاء هذه المرّة من قبل وزير المال المحسوب عليه.
ولكن، لا تنحصر العقد في مسألة الانتظام القانوني، بل أيضاً في عدم رغبة القوى السياسية المشاركة في الحكومة الخوض في تعديلات ضريبية تصيب مطارح تحقق الثروة. بحسب مصادر وزارية، طرح وزير المال إقرار سلسلة الرتب والرواتب، وبالتالي إقرار الإجراءات الضريبية التي وُضعت بحجتها، ولا سيما فرض الضريبة على البيوعات العقارية ورفع الضريبة على ربح الفوائد وشمول المصارف بها. المعروف أن الاجراءات المذكورة أقرّت في الهيئة العامة لمجلس النواب، إلا أن الخلاف على السلسلة دفع الرئيس بري إلى إعلان أن الجلسة النيابية متواصلة ولم يقفل المحضر!
قالت المصادر إن الوزيرين جبران باسيل ومحمد فنيش أيّدا طرح خليل بإقرار الاجراءات الضريبية، كما أيّد فنيش إقرار السلسلة وتريّث باسيل، فيما صمت ممثلو القوى الأخرى، ولم يحددوا موقفاً حاسماً من المسألتين، ما عدا الوزير سجعان قزي الذي طالب بتخفيض الضرائب وزيادة الرسوم، في حين ذهب الوزير نبيل دوفريج الى اعتبار أن الاصلاح الحقيقي لا يكون بالضرائب بل بتعديل نظام التقاعد في الدولة، لأنه بات مكلفاً، معتبراً أن إعادة طرح السلسلة في ظل الظروف القائمة يعدّ أمراً خطيراً!
الإنفاق الإضافي «غير القانوني»
أعدّت وزارة المال مشروع قانون لتغطية الانفاق الاضافي في مشروع موازنة 2016 بقيمة 877.9 مليار ليرة، ولتغطية الموازنات الملحقة بقيمة 235.7 مليار ليرة، وأرسل إلى مجلس الوزراء في حزيران الماضي لدرسه وإقراره.
إذاً، تطلب وزارة المال إصدار قانون يجيز لها صرف نحو 1113.6 مليار ليرة إضافية لتغطية الحاجات الملحوظة لهذا العام. فمنذ توقف مجلس النواب في 2006 عن إقرار قوانين الموازنة العامة، أصبحت النفقات والإيرادات تخضع لـ«القاعدة الاثني عشرية»، التي لا تجيز أي إنفاق أو تحصيل إضافي يفوق المبالغ الواردة في آخر موازنة أقرّها مجلس النواب (علماً بأن النص الحرفي للمادة 86 من الدستور تعني أن القاعدة الاثني عشرية مجازة لشهر واحد فقط، هو شهر كانون الثاني، وليس لأكثر من 11 سنة).
بحسب تقرير وزير المال علي حسن خليل «اتبعت طرق عديدة لتغطية الحاجات الإضافية فوق اعتمادات قانون موازنة 2005 البالغة 10 آلاف مليار ليرة فقط «كل هذه الطرق لم تراع الأصول القانونية في الإنفاق، وبالتالي تقرر وقف العمل بها، واعتماد قانون الموازنة العامة والموازنات الملحقة لعام 2005 سقفاً للإنفاق، أي 10 آلاف مليار ليرة للموازنة العامة و1702 مليار ليرة للموازنات الملحقة، ويضاف الى اعتمادات قانون موازنة 2005 الاعتمادات الآتي:
– القانون 238/2012 الذي يغطّي 80% من سلف الخزينة المعطاة لوزارة المال (9249 مليار ليرة).
– القانون 1/2014 لتغذية بند الرواتب (627 مليار ليرة).
– القانون 15/2015 لتغذية بند الاحتياط (340 مليار ليرة).
– القانون 39/2015 (4569 مليار ليرة).
– القانون 40/2015 لتغذية بعض بنود الرواتب وملحقاتها (862 مليار ليرة).
صحيفة الاخبار