اتصلت بي سما متضايقة على غير عادتها، مذ عرفتها لم أعهدها إلاّ ممتلئة حياة وحيوية وأمل. لم يسبق لي أن التقيتها بهذا الحال من الضيق والتذمّر، سألتها عن سبب ضيقها الذي تسلّل إلى روحها وابتسامتها التي لم تكن تفارق وجهها، فصارحتني بالقول: لا أعرف كيف أتعامل مع ولدي تالا وتيم، أنت تعرفين أنّنا في إقامة جبرية هذه الفترة، وقد أصابنا الضجر والقلق جميعاً من هول ما يحيط بنا من مخاوف لا يبدو معها أنّ أفق الحل ستلوح في الأفق، بل على العكس من ذلك نراها في تفاقم مستمر. وأكملت: لقد فاجأني سؤالك عن سبب الضيق الذي نعيش، مع إنو كلنا بالهوا سوا.
بعدما طلبت من صديقتي أن تأخذ نفساً عميقاً، وأن تلجأ إلى اتباع طريقة 4، 2، 8 (الشهيق 4 عدّات، الاحتفاظ به عدتين ثمّ الزفير 8 عدّات) التي لطالما أخبرتها عنها عندما تحاصرني ضغوط العمل أو الحياة أو كلاهما معاً، استجمعت قواي وقلت لها.. تعرفين يا سما، أنّنا نمر بفترة استثنائية من حياتنا، فترة لم نعهد مثلها قبلاً، ولم تكن بالحسبان في أي يوم من الأيام. هذه الفترة ليست بالسهلة على الإطلاق، ولكنها قد تكون في الوقت ذاته فرصة مهمّة لنا أعتقد أنّها لن تعوّض، إذا عرفنا كيف نتعامل معها.
جميعنا ندرك أنّ هذه المرحلة هي دقيقة وحسّاسة وصعبة لأنّنا لم نألفها ولم نعهدها من قبل، مرحلة اضطررنا أن نواجهها لتأمين سلامتنا وسلامة من نحب، وسلامة المجتمع بشكل عام، ومهما عرضنا من أفكار وتصوّرات تبقى الإجراءات العملية هي الأساس.
ما يمكننا فعله، هو الالتزام بتنفيذ حزمة من الخطوات التي لا رجعة عنها؛ تبدأ بتعديل نظرتنا إلى الاحتجاز القسري الذي نصف، باعتباره فرصة غير متوقّعة للاحتفال بالحصول على مزيد من الوقت لقضائه مع العائلة كعائلة، ساعين لجعلها ممتعة قدر الإمكان، وبوصفه بداية جيدة تتيح لنا التخطيط لمشاريع عائلية تُخرجنا من الأسر المنزلي وأن كنا لا نغادر حدود منازلنا، كما بالتعامل معه على أنه مكسباً للشعور بالسيطرة على الأوضاع والقدرة على إدارة الأمور، من خلال وضع جدول منتظم ليومياتنا، ويبقى أن ننظر إلى إيجابياته كوسيلة للحصول على فترة استراحة يومية تساعدنا وتساعد أطفالنا على التخفيف من التوتر.
إجراءات تتمثّل في وضع برنامج مبرمج ومنظّم، يتضمن العديد من الخطوات التي تتيح لنا التعامل مع أولادنا كأهل، بكل ما تحمله هذه الكلمة من معنى ومسؤولية، اجعلوا أوقاتكم مرنة فلا تحولوا منازلكم إلى روتين يومي لا يخترق، امنحوا كل فرد من أسركم صغيرهم كما كبيرهم حق المشاركة في وضع البرنامج العائلة اليومي بالتوافق مع الجميع، وزّعوا مهام توضيب وتنظيف المنزل والمساعدة في الطهي وصنع الحلويات وتأمين الحاجات اليومية فيما بينكم بحسب رغبة كل منكم وتداورها على مدى الأيام، راعوا خصوصية كل فرد من أفراد الأسرة من خلال تحديد فترات حرّة تتيح لهم ممارسة الهوايات والنشاطات المختلفة التي يرغبون بها، ولن تنسوا أن تتشاركوا معهم بكل أنواع اللعب التي يحبونها، ويمكنكم إحياء ألعاب طفولتكم معهم إذا أعجبتهم.
كثيرة وكثيرة الأشياء التي يُمكن أن تفعليها كل يوم، حدّدي أوقاتاً للحديث عن ذكرياتكم الجميلة مع الأهل والأصدقاء، جميل أن يسمعوا منك بشغف عن مشاعركم التي رافقت قدومهم إلى هذه الحياة كما عن آمالكم التي ترسمونها لحياتهم ومستقبلهم. استمعوا إلى حكاياتهم الخاصّة باهتمام، وابتعدوا عن طرح الذكريات السلبية والقصّص المقلقة. تجنبوا الاستماع إلى الأخبار التي تزيد منسوب الخوف والقلق أو الارتباك والتوتر عند الكبار كما الصغار، مارسوا الرياضة بأنواعها المتعدّدة أكثر من فترة خلال الأسبوع، وراعوا توزيع الأدوار فيما بينكم مداورة، كفكرة تعيين قائد ليوم واحد، يتصدّر الفريق ويقترح الألعاب اليومية.
في هذه الأثناء، أدركت بأني تكلمت كثيراً ولم أشعر حتى بنفَسِ سما عبر سماعة الهاتف، مع حماستي بأنّه لا زال لدي الكثير لأدلي به، لكن سرعان ما استدركت قائلة: سما، ألا زلت معي؟ هنا أجابتني: طبعاّ، طبعاً، أكملي صديقتي، فقد فتحت أمامي أكثر من نافذة لإعادة النظر في كل مجريات حياتنا، أعتقد أننا بحاجة لرسم مسار مختلف عمّا اتبعته طوال السنوات الماضية، حيث كنت ألهث دون وعي وراء عالم مجنون بكل المقاييس، لتكن هذه الفترة هديتنا من السماء لنعيد ترتيب أولوياتنا محاولين اكتساب مهارات جديدة تغني شخصيتنا وتزيد من قدراتنا، شكرا لك صديقتي الغالية، يبدو أنّه تنتظرني مهمات جميلة وكثيرة لم تكن في الحسبان.
لم أترك الوقت كثيراً لسما كي تستفيض، وكأنّي لم أصدق أنّها أتاحت لي الفرصة لأكمل ما أرغب بقوله، وتابعت، هل تعرفين يا صديقتي أنّه بإمكانك القيام يومياً بزيارات افتراضية من خلال التواصل مع العائلة وأصدقاء العائلة، هل تعرفين أنّه يمكن كل واحد منّا تمضية وقت طويل مع الجد والجدة والأعمام والأخوال، وكل أفراد العائلة دون استثناء، بوضع برنامج يومي للتواصل مع كل منهم، ويمكننا إنشاء مجموعات مغلقة عبر منصات التواصل الاجتماعي المتعدّدة كي نلعب سوياً ألعاباً بالمبارزات الشعرية، أو اختيار الكلمة المناسبة، أو بحل الأحاجي والألغاز، أو بتبادل الأفكار وكل ما يُمكن أن يخطر على بال إي منّا.
عزيزتي سما، لقد عملت على إنشاء مجموعات “افتراضية” في حيّنا، وعملت على دعوة أولاد الحي بعد أن نسقت الأمر مع أهاليهم طبعاً، وأنشأنا مجموعات للتواصل بين الجميع، بعد أن ساهم كل منهم بوضع بروتوكول أو نظام لإدارة هذه المجموعات، كل بحسب وقته ورغبته وظروفه. يمكنك أن تدعي أولادك يتواصلون مع رفاقهم بذات الطريقة، ويعملون على تبادل مكتسباتهم اليومية، أو التشارك في إنجاز مشاريع قد تساعد الآخرين، ككتابة رسائل إلى الجيران أو تسجيل فيديوهات للأشخاص الموجودين في منازلهم لوحدهم، أو للعاملين في مجال الرعاية الصحية؛ كما يمكنهم قراءة كتاب أطفال أو قصص مفضّلة على منصة التواصل الاجتماعي لسماعها ممّن يرغب من الأقارب والأصدقاء وحتى الأطفال الصغار كما الكبار ممّن نعرفهم؛ دعي أولادك يبادرون إلى القيام بهذا الأمر في حال راقت لهم الفكرة، كما يمكننا جميعاً إرسال رسائل إيجابية واعية وممتلئة محبة عبر منصات التواصل الاجتماعي المتعدّدة.
هل تعرفين يا صديقتي أنّه يمكنكم زيارة بلاد العالم والاطلاع يومياً، إذا رغبتم، على مزاياها وخصائصها وآثارها، وثقافتها وتقاليدها، عبر استحضار الصور والمعلومات من الأنترنت، الأمر نفسه يمكننا القيام به لكل بلدة أو قرية في وطننا، وينطبق الأمر على تعلّم لغات العالم في غير مورد متاح خلال فترات الحجر المنزلي التي نعيش. هناك الكثير الكثير لنتعلّمه كما لنتعرّف على أشياء جديدة ربما لم نخبرها قبلاً وعلى غير صعد. تعرفين يا سما أنّه لا يجب أن نغفل ضرورة إيجاد فترة يومية خاصّة نعمل فيه على تعزيز الجانب الإيماني الروحي لدى كل منّا وبطرق غير تقليدية.. فجأة انقطع حبل أفكاري عندما سمعت أصوات تالا وتيم تعلو بقوة، فأقفلت سما خط الهاتف بعد أن قالت لي على عجل أخابرك لاحقاً …. حمى الله الجميع ..
الدكتورة ليلى شمس الدين
أستاذة جامعية وباحثة في الانثروبولوجيا والإعلام