كتبت صحيفة الديار تقول: الدين العام هو نتاج عجز الموازنة الذي هو بدوره نتاج السياسات الحكومية. ففي نهاية كل عام يتحوّل عجز الموازنة تلقائيًا إلى دين عام حيث يتمّ تمويله من خلال إصدار سندات خزينة.
في الإجمال، الإستدانة ليست بشيء سيىء، بل هي تعكس أمل في المُستقبل حيث يتمّ الإستدانة لتمويل مشاريع في مُعظمها إستثماري (حالة الدول). وتُشكّل الإستدانة في حدّ ذاتها رافعة مالية يُمكن للدول الإستفادة منها لتعظيم الإستفادة من المشاريع، إلا أن تخطّي نسبة مُعينة من الدين العام نسبة إلى الناتج المحلّي الإجمالي، تؤدّي إلى فقدان السيطرة على الدين العام. من هذا المُنطلق، قامت المؤسسات العالمية بوضع عتبات لا يتوجّب أن يتخطّاها الدين العام في بلد مُعينّ. ففي حالة أوروبا مثلا، فرضت معاهدة ماستريتش أن تكون نسبة الدين العام إلى الناتج المحلّي الإجمالي أقلّ من 60%، كما أن العديد من الدراسات قسّمت نسبة الدين العام إلى الناتج المحلّي الإجمالي إلى ثلاث فئات:
أولا ـ أقلّ من 30% وهذه الدول هي دوّل تتمتّع بسيطرة كاملة على دينها العام؛
ثانيًا ـ ما بين 30% و90% وهذه الدول مدّعوة لأخذ إجراءات لخفض دينها العام؛
ثالثًا ـ أكثر من 90% وهذه الدول هي دول في خانة الخطر حيث أن إستعادة السيطرة تفرض إجراءات قاسية.
بالطبع يلعب حجم الإقتصاد وهيكليته دورا أساسيا في الحكم على النسب، ففي حال اليابان مثلا، تبلغ هذه النسبة 250% إلا أن حجم الإقتصاد الياباني (4.8 تريليون دولار أميركي) وديناميته تلعب دورًا كبيرًا في ثبات أسعار سندات الخزينة اليابانية في الأسواق بحكم أن هذا الإقتصاد قادر على تغطية خدمة الدين العام بدون أية إشكالية.
في لبنان يبلغ الدين العام 90 مليار دولار أميركي أي ما يزيد عن 158% من الناتج المحلّي الإجمالي! هذه النسبة وحجم الإقتصاد اللبناني وهيكليته الخدماتية بإمتياز تجعل منه بلداً في منطقة الخطر نظرًا إلى أن الإقتصاد عاجز عن تغطية خدمة الدين العام.
آلية فقدان السيطرة على الدين العام
تنص النظرية الإقتصادية على أن توازن الميزانية العامة للدولة ليس بالمقياس الدقيق للسياسة المالية (التي هي من مهام الحكومة). هذا الأمر نابع من تأثر الميزانية العامّة بعاملين أساسيين:
الأول ـ سياسة الديون في السنين الماضية مما ينعكس سلبًا في خدمة الدين العام.
ثانيًا ـ وضع الإقتصاد الحالي في الدورة الإقتصادية وينتج عنه زيادة في عجز الموازنة بمعزل عن الخيارات الهيكلية في الميزانية (مُعدّل الضرائب ومُستوى الإنفاق).
وفي لبنان يتأثر هذين العاملين بعامل الفساد الذي يزيد من ديون الحكومة وفي نفس الوقت يمنع أي إصلاحات إقتصادية وبالتالي يلعب الفساد دور المُفعّل لزيادة العجز (Catalyst).
وتضع النظرية الإقتصادية معايير مُحدّدة لقياس مدى الإنضباط في المالية العامة عبر قيود تفرضها على ميزانية الدولة، إذ يتمّ تمويل النفقات الإجمالية في الميزانية العامة لكل سنة مالية من الضرائب أو من الإصدارات لسندات خزينة.
ويُمكن وضع هذه القيود ضمن معادلة حسابية على الشكل التالي:
الإصدارات الجديدة (أو زيادة الدين العام) + الإيرادات الضريبية = خدمة الدين العام + الإنفاق العام.
ويُمكن الإستنتاج من هذه المُعادلة أن نسبة الدين تزيد لسبب من سببين: الدولة تُسجّل عجزًا أوليًا أو الفجوة بين سعر الفائدة الحقيقي ومُعدّل النمو يزيد!
مُشكلة لبنان تكمن في أنه يجمع الحالتين، فميزان لبنان الأوّلي يُسجّل فائضًا طفيفًا أو عجزًا غير كافٍ لتغطية خدمة الدين العام، كما أن الفجوة بين سعر الفائدة الحقيقي ومعدل النمو تزيد يوماً بعد يوم.
إذًا لإستعادة الإنتظام المالي، يتوجّب على الدولة اللبنانية أن تُسجّل فائضًا في الميزان الأولي يفوق قيمة خدمة الدين العام. مما يعني يتوجّب على الإقتصاد أن ينمّو بشكل يسمح للضرائب والرسوم بأن تفوق قيمة خدمة الدين العام!
الدين العام اللبناني
الدين العام اللبناني وصل إلى مستويات خطيرة جدًا. تحذيراتنا منذ ما يُقارب العشر سنوات لم تُجد نفعًا. لبنان فقد رسميًا السيطرة على دينه العام في اللحظة التي بدأ فيها الإقتراض بالدولار الأميركي. وبملاحظة تطوّر الدين العام منذ كانون الأول 1992 وحتى يومنا هذا، نرى أن كل الحكومات ساهمت في رفع الدين العام ولم تستطع أيًا منها كسر الإتجاه التصاعدي لهذا الدين من خلال إصلاحات إقتصادية تسمح للإقتصاد بتمويل الإستدانة. فقد إعتمدت الحكومات كلّها على مبدأ الإستدانة لتمويل الإستدانة حتى أنه أصبح من شبه المُستحيل على الدولة سدّ إستحقاقاتها من دون الإستدانة من الأسواق.
أمّا اليوم فقد أصبح من شبه المُستحيل الإستدانة من الأسواق مع التصنيف الإئتماني الحالي، لذا تواجه الحكومة مُشكلة دفع الإستحقاقات.
تبلغ قيمة رأس المال المُستدان (بالدولار الأميركي فقط) من قبل الدولة اللبنانية على شكل سندات يوروبوندز ما قيمته 28.314.133.000 دولار أميركي. وإذا ما أخذنا بعين الإعتبار الفوائد على هذا الدين، تُصبح الفاتورة 43.486.759.727 دولار أميركي. هذه الأرقام الصادمة هي نتاج السياسات الحكومة على مرّ السنين والتي أوصلت لبنان إلى الحالة التي هو فيها.
من هذا المُنطلق، يُطرح السؤال كيف سيتمّ دفع إستحقاق 9 أذار المقبل والإستحقاقات التي تليه؟
إستحقاق 9 أذار
إستحقاق 9 أذار من سندات اليوروبوندز والبالغ 1,276,500,000 دولار أميركي، ينتظر قرار الحكومة بدفعه أو عدم دفعه. فهناك وجهتي نظر مُختلفتين الأولى تنصح بعدم الدفع نظرًا إلى أن لبنان أصبح على شفير الإفلاس وبالتالي الدفع وعدم الدفع سيّان. أما الثانية، فتنصح بدفع الإستحقاق حيث أن حاكم مصرف لبنان طرح على رئيس الحكومة السابق سعد الحريري خطّة تنصّ على دفع الدين الخارجي وإستبدال الداخلي بإستحقاق جديد. وكان جواب الرئيس الحريري أنذاك، أن الحكومة الجديدة هي من ستأخذ هذا القرار.
وهنا يأتي طلب الحكومة بالمساعدة التقنية من قبل صندوق النقد الدولي على أن يعرض هذا الأخير الخيارات المطروحة بالأرقام بما فيها إعادة هيكلة الدين العام. وتنتظر الحكومة أخر شباط الجاري لتأخذ قرارها في الموضوع.
إلا أن ما يجب قوله هو أن عدم الدفع سيجلب على لبنان سيناريوهات لن يكون بمقدوره مواجهتها خصوصًا على الصعيد الإجتماعي. من هذا المُنطلق، نرى أن هناك شبه إلزامية لدفع إستحقاق 9 أذار على أن تقوم الحكومة بدراسة خيار إعادة هيكلة الدين العام بعد دفع الإستحقاق. هذا الأمر يعفي الدولة من ملاحقات قانونية سيتم من خلالها حجز أصول الدولة بما فيها البواخر التي تجلب المواد الأولية.