اكد رئيس الجمهورية العماد ميشال عون ان عوامل عدة، منها ما هو خارجي ومنها ما هو داخلي، تضافرت لتنتج أسوأ أزمة اقتصادية ومالية واجتماعية ضربت لبنان. واوضح انه منذ بداية هذا العهد شكّل الوضع الاقتصادي والمالي الهمّ الأكبر، و”بذلتُ جهوداً كبيرة للمعالجات الاقتصادية ولكنها لم تأتِ بكل النتائج المأمولة لأن الوضع كان سيئاً والعراقيل كثيرة. وقد أدّى الضغط الاقتصادي المتزايد الى نزول الناس الى الشارع بمطالب معيشية محقة وبمطلب جامع لكل اللبنانيين وهو محاربة الفساد.”
واعتبر الرئيس عون، في كلمة له امام اعضاء السلك الديبلوماسي ومديري المنظمات الدولية قبل ظهر اليوم في قصر بعبدا الذين جاءوا لتهنئته بالاعياد بحضور وزير الخارجية والمغتربين جبران باسيل والامين العام لوزارة الخارجية السفير هاني شميطلي، ان التظاهرات خصوصاً في بداياتها، “شكّلت فرصة حقيقية لتحقيق الاصلاح المنشود لأنها هزّت المحميات الطائفية والسياسية وقطعت الخطوط الحمر وباتت المحاسبة ممكنة”، ولكن محاولات استغلال بعض القوى السياسية للتحركات الشعبية أدّت الى تشتّت بعضها وإغراقها في راديكالية رافضة، كذلك نمط الشائعات المعتمَد من بعض الإعلام وبعض المتظاهرين، حرّف بعض الحراك عن تحديد مكامن الفساد الحقيقي وصانعيه بصورة صحيحة، ولا زلت أعوّل على اللبنانيين الطيبين في الشوارع والمنازل لمحاربة الفساد”، فيما عمل الجيش والقوى الامنية على تأمين حق التظاهر وسلامة المتظاهرين. لكن هذا الوضع فاقم الأزمة الاقتصادية كما انعكس سلباً على الوضع الأمني، وقد أدى الى ارتفاع معدل الجريمة بجميع أنواعها بعد أن كنّا حققنا تقدّما لافتاً في خفضه في العامين المنصرمين.
وشدد رئيس الجمهورية على ان ولادة الحكومة ” كانت منتظرة خلال الاسبوع الماضي، ولكن بعض العراقيل حال دون ذلك. وعلى الرغم من اننا لا نملك ترف التأخير، فإن تشكيل هذه الحكومة يتطلّب اختيار أشخاص جديرين يستحقون ثقة الناس والمجلس النيابي مما تطلب بعض الوقت”، واضاف: “سنبقى نبذل كل الجهود الممكنة للتوصل الى الحكومة الموعودة، مقدّمين المصلحة الوطنية العليا على أي اعتبار آخر.”
وتحدث الرئيس عون عن الاعباء التي خلّفتها مسألة النزوح السوري الى لبنان ونتائجها السلبية على المجتمع اللبناني، لكنه لفت الى “مؤشرات إيجابية نتوقعها في الآتي من الأيام مع بدء لبنان أعمال التنقيب عن ثرواته الطبيعية في مياهه الاقليمية، وهنا نجدد التأكيد على تمسكنا بحقنا باستثمار كافة حقولنا النفطية، ورفضنا لأي محاولة إسرائيلية للاعتداء عليها، وتشديدنا على ضرورة تثبيت الحدود البرية وترسيم البحرية”.
واكد الرئيس عون على “تمسّكنا بالقرار 1701 وبالقرارات الدولية والشرعية الدولية القائمة على العدالة والحق بتأمين استعادة حقوقنا وأرضنا ومنع التوطين في لبنان، وكذلك تمسّكنا بمبدأ تحييد لبنان عن مشاكل المنطقة وإبعاده عن محاورها لإبعاد نيرانها عنه من دون التفريط بقوة لبنان وحقه في المقاومة وقيام استراتيجية دفاعية تعزّز هذه الفرصة بالتفاهم بين كل اللبنانيين.”
واعرب عن ثقته بأن ذكرى مئوية اعلان “دولة لبنان الكبير” ستشكل فرصة ملائمة، وسط جميع عوامل القلق وضبابية الرؤية، لإعادة اكتشاف دور لبنان ومكانته، وتجديد الالتزام من قبل جميع اللبنانيين بتحدي بناء وطن يليق بالإنسان وكرامته.
من جهته، شدد عميد السلك الدبلوماسي السفير البابوي المونسنيور جوزف سبيتيري، على اهمية الحوار وخصائصه التي تحترم الآخر ورأيه ولا تقصي احداً من المعارضين او الموالين او غير الراغبين بأخذ اي طرف. وشدد على ان “آفة الفساد، التي لطالما لقيت شجبًا من فخامتكم، تعرقل عمل الدولة في خدمة جميع مواطنيها بشكل فعّال”.
وقال السفير البابوي ان “الحوار مستحيل إذا لم نعتبر بعضنا البعض متساوين. هذا الحدس الأساسيّ يكمن في عمق مبادرة فخامتكم في إنشاء “أكاديميّة اللقاء والحوار”، التي أقرّتها الجمعيّة العامّة للأمم المتحدة في 16 أيلول 2019. نرجو فخامتكم قبول أصدق تهانينا، وأفضل تمنيّاتنا لتنفيذ سريع لهذا المشروع الخيّر في خدمة الأخوّة الإنسانيّة في لبنان وفي العالم كلّه.”
ولفت الى ان “المجتمع الدوليّ، الممثّل هنا برؤساء البعثات الدبلوماسيّة ومسؤولي المنظّمات الدوليّة، لا زال يشدّد على ضرورة حوار صادق قائم على الإحترام بين القادة السياسيّين انفسهم، كما بينهم وبين اولئك الّذين يطالبون بالتغيير الحقيقيّ.” وامل “أن يؤدي الحوار إلى تشكيلٍ سريعٍ لحكومةٍ يُكتبُ لها الحياة، لكي تقرّ الإصلاحات الطارئة والضروريّة وتوضع حيّز التنفيذ، ولكي تُستعاد الثقة لدى جميع اللبنانيّين ولدى جميع أصدقاء لبنان.”
وكان الحفل بدأ بتوافد السفراء يتقدمهم المونسنيور سبيتري الى القصر الجمهوري على وقع موسيقى الجيش التي عزفت الحانا خاصة بالمناسبة. وبعد اكتمال الحضور، انتقل السفراء الى قاعة 22 تشرين الثاني حيث صافحهم الرئيس عون فيما قدموا له التهاني باسم رؤساء دولهم.
كلمة السفير البابوي
وفي بداية اللقاء، القى السفير البابوي كلمة هنّأ فيها الرئيس عون بحلول الاعياد، وقال:
“فخامة الرئيس،
بداية، اسمحوا لي أن أعبّر لفخامتكم عن الشكر الصادق لاستقبالكم لنا، نحن السفراء وممثّلي المنظّمات الدوليّة، في مناسبة التبادل التقليدي للأمنيات، في بداية السنة الجديدة. إنّه لشرف لي أن أمثّل زملائي المحترمين، إذ نوجّه إلى فخامتكم والى كلّ الشعب اللبناني أصدق وأفضل أمنياتنا بالسلام وبالعيش الهنيء في سنة 2020. عسى أن تكون هذه السنة اليوبيليّة سنة تجدّد للبنان.
صاحب الفخامة، لقد تسنّى لي، كما لكثيرين من السفراء الحاضرين هنا، زيارة عدة مؤسّسات انسانيّة وخيريّة في بلدكم الجميل. إنّ غالبيّة هذه المؤسسات تابعة لمنظّمات دينيّة، وهي تستقبل الجميع بدون تمييز. تشهد كلّ هذه المؤسسات للتضامن العميق الذي يحرّك المجتمع اللبنانيّ، والذي ينبع من القلب. يُذهلنا، جميعًا، كرمُ اللبنانيّين وصلابتُهم. باستطاعة لبنان أن يكون، عن حقّ، فخورًا بأبنائه وبناته الّذين يجهدون لتأمين العناية والمساعدة الضروريّتين للأطفال، والشباب، والراشدين، والمسنّين، وخصوصًا لذوي الاحتياجات الخاصّة منهم.
بالمقابل، يعتري غالبيّةَ اللبنانيّين انزعاجٌ عميقٌ بسبب ظاهرة مضادة في المجتمع اللبنانيّ تتمثّل بآفة الفساد، التي لطالما لقيت شجبًا من فخامتكم. للأسف، إنّ هذه الظاهرة المضادّة تعرقل عمل الدولة في خدمة جميع
مواطنيها بشكل فعّال. إنّ الفساد يعيق الحكومة في تأمين تعليم جيّد، وعناية طبية، وضمان اجتماعي، ومياه وكهرباء … إنّ هذه الآفة تحدّ من الحماية ومن الضمانات التي تؤمّنها سيادة القانون.
لذا، ذُهلنا بالدعوة الصادقة إلى التجديد القائم على الأخلاقيّات في البلد، الّتي أطلقها الشباب خلال الأشهر الثلاثة الماضية، حيث عمّت الاحتجاجات جميع الربوع اللبنانيّة. إنّ الشباب، مصحوبين من الأجيال السابقة، ومدفوعين من روح تضامن عميق، اجتمعوا حول العلم اللبناني، مطالبين بالاحترام لحقوقهم الثابتة. لقد طالبوا أيضًا باصلاحات سياسيّة، واجتماعيّة، واقتصاديّة. فهم ضدّ الفساد، وهم يطالبون بغدٍ أفضل، وإنّهم لمستحقّونه.
إنّ الفساد يُبيد التضامن. فهو يسمّم قلوبنا، وأفكارنا، وأعمالنا، ويعمينا، فلا نعود نعتبر الآخرين مساوين لنا في الكرامة. إنّه يحملنا إلى الاعتقاد بأنّ الآخرين هم مجرد أشياء متوفّرة لنا، بامكاننا التصرف بها ورميها حين نريد. إنّ الفساد يعيق الحوار الحقيقيّ والمشاركة الفعّالة للكفاءات. إنّ الحوار والمشاركة، عمليًّا، يشكّلان جوانب أساسيّة للتضامن. وبالتالي، يمكننا اعتبار التضامن ترياقًا للفساد. فالحوار مستحيل إذا لم نعتبر بعضنا البعض متساوين. هذا الحدس الأساسيّ يكمن في عمق مبادرة فخامتكم في إنشاء “أكاديميّة اللقاء والحوار”، التي أقرّتها الجمعيّة العامّة للأمم المتحدة في 16 أيلول 2019. نرجو فخامتكم قبول أصدق تهانينا، وأفضل تمنيّاتنا لتنفيذ سريع لهذا المشروع الخيّر في خدمة الأخوّة الإنسانيّة في لبنان وفي العالم كلّه.
لا أخوّة انسانيّة ممكنة بدون حوار. إنّ المجتمع الدوليّ، الممثّل هنا برؤساء البعثات الدبلوماسيّة ومسؤولي المنظّمات الدوليّة، لا زال يشدّد على ضرورة حوار صادق قائم على الإحترام بين القادة السياسيّين انفسهم، كما بينهم وبين اولئك الّذين يطالبون بالتغيير الحقيقيّ. لا يستطيع الحوار أن يُقصيَ أيَّ أحدٍ: المؤيدين، والمعارضين، وغير الراغبين بأخذ موقف مع أيّ طرف. لكلّ مواطن الحقّ في أن يُسمعَ صوتُه. إنّ أيّ نوع من العنف، نفسيًّا كان أم جسديًّا، يدمّر امكانيّة الحوار، تمامًا كما يدمّرها إلقاء اللوم، بشكل دائم، على الطرف الآخر. والحوار الصادق يتطلّب انفتاحًا، وإرادة صالحة، ورغبة في الوصول إلى اتفاق، من خلال التضحية ببعض المواقف والأفكار. كلّ ذلك، من أجل الخير العام. نجدّد اليوم التعبير عن أمنيتنا الحارّة بأن يؤدي الحوار والإرادة الصالحة عند جميع الفرقاء المعنيّين، إلى تشكيلٍ سريعٍ لحكومةٍ يُكتبُ لها الحياة، لكي تقرّ الإصلاحات الطارئة والضروريّة وتوضع حيّز التنفيذ، ولكي تُستعاد الثقة لدى جميع اللبنانيّين ولدى جميع أصدقاء لبنان.
فخامة الرئيس، يبدو أنّ احتفالات المئوية الأولى لإعلان دولة لبنان الكبير محجوبةٌ بالثورة اللبنانية، وبالأزمة الماليّة والإقتصاديّة، وبالمشاكل المرتبطة بتشكيل الحكومة الجديدة. ليست هي المرة الأولى التي يمرّ بها لبنان بأوقات شديدة الصعوبة. كلّ ضائقة شديدة تُنذر بنهاية حقبة، ولكنّها ليست أبدًا نهاية التاريخ. إنّ اللبنانيّات واللبنانيّين سوف يتابعون، كمواطنين أحرار في بلد حرّ، كتابة فصول جديدة في تاريخهم. نحن مقتنعون أنّ اللبنانيّين يُحسنون أخذ الموقف الصائب لاكتشاف الفرص الجديدة التي تتظهر من خلال الأزمة الحاليّة. اللبنانيّون غير خائفين من الجراحات التي قد تسبّبها اللقاءات الصادقة بين البشر، لأنّهم يؤمنون أيضًا أنّ التضامن يشفي كلّ جرح. في هذا الصدد، أودّ أن أحيّيَ، بإجلال، دور المرأة اللبنانيّة في المجتمع وفي الإدارة، وخصوصًا في الثورة الحاليّة، لأنّها لا تطلب فقط تجديدًا جذريًّا، بل لأنّها تشهد أيضًا للتضامن الفعّال. عسى أن
يُلهمَ مَثَلُها جميعَ الذين يُمسكون بزمام السلطة، خصوصًا في القطاع المصرفيّ وفي السياسة، لكي يكونوا موضع مساءلة، ولكي يأخذوا القرارات الصائبة والأخلاقيّة الآيلة إلى خدمة لبنان ومواطنيه، خصوصًا في هذا الوقت العصيب. إنّ أصدق تمنيّاتنا هي أن تشكّل هذه المئويّة فرصة سانحة لإعادة اكتشاف الحدس الأساسيّ الذي كان وراء تأسيس لبنان الوطن، ليس أوّلاً كوطن يجمع أقليّات، بل كجماعة من المواطنين الأحرار، ينصّ الدستور عن الطابع الثابت لكرامتهم، ولمساواتهم، ولحقوقهم.
من غير الممكن إنهاء كلمتنا، بدون ذكر الوضع الحاليّ في الشرق الأوسط. إنّنا جميعنا مرتبطون ثقافيًّا، بطريقة أو بأخرى، بهذه المنطقة من العالم، هذه المنطقة التي لا زالت تعاني من حروب لا تنتهي، والتي تواجه اليوم تشنجات متجدّدة. نتمنّى الاستقرار والنموّ الإنسانيّ الكامل لجميع شعوب المنطقة. نريد، اليوم، حثّ جميع اللبنانيّين على المثابرة الجلودة على الالتزام بالحريّة، وبالحقوق الأساسيّة، وبالديموقراطيّة، وبالتضامن، لكي يظلّ اللبنانيّون مصدر إلهامٍ ورجاءٍ عن امكانيّة العيش المشترك والمتناغم، وعن التطوّر، ليس فقط في بلاد الأرز، بل أيضًا في البلدان المجاورة.
فخامة الرئيس، نرجوكم أن تقبلوا اصدق وأفضل الأمنيات للسنة الجديدة، من كلّ رأس دولة من دولنا. إنّ لنا شرف تمثيل كلّ منهم لديكم. جميعهم يجدّدون صداقتهم مع لبنان، والتزامهم، النابع من القلب، بدعم بلدكم الرائع. نسأل الله الكليّ القدرة، في حكمته ورحمته، أن يُغدق بركاتِه، على فخامتكم وعلى عائلتكم، كما على جميع اللبنانيّين، خلال سنة 2020، التي هي سنة مئويّة وسنة رجاء.
بارك الله لبنان! وباركنا جميعًا نحن الحاضرين هنا. وشكرًا.”
كلمة الرئيس عون
ثم القى الرئيس عون الكلمة التالية:
” سعادة السفير البابوي المونسنيور جوزيف سبيتيري عميد السلك الدبلوماسي،
أصحاب السعادة،
حضرة ممثلي البعثات الدبلوماسية المعتمدة في لبنان،
إنها لمناسبة طيبة أن نلتقي مطلع كل عام، وفقاً لتقليد عريق يجمع ما بيننا، لتبادل التهاني بحلول العام الجديد، واستشراف آفاق الآتي من الايام وما تحمله من تحديات وعناصر رجاء في آن. وإذ أشكركم، سعادة القاصد الرسولي، على كلمتكم الطيبة وما عبّرتم عنه، باسم أعضاء السلك الدبلوماسي، من تمنيات ومشاعر محبة وتضامن، لي شخصيا وللشعب اللبناني، أعرب عن أملي في أن يأتي العام الجديد، عليكم وعلى دولكم وقادتكم وشعوبكم بالخير والسلام.
وأخص بالذكر قداسة البابا فرنسيس، ورسالته القيمة في اليوم العالمي للسلام. فملفتٌ اعتبار قداسته ان “السلام هو طريق الرجاء”، رجاء مشترك بين الشعوب في وجه الحروب والاضطهاد واللاعدالة؛ فالرجاء هو جوهر إيماننا، ونحن نرقد تحت التراب على رجاء القيامة. وإذا كان السلام هو رجاء الشعوب فهذا يعني انه
جوهر حياتها. وليت المتحكمين بمفاصل السلام العالمي يلتفتون الى هذه الحقيقة عند اتخاذهم قرارات قد تهدّد السلم والاستقرار في بقع مختلفة من عالمنا.
وإذا كان العالم كما يقول قداسته “لا يحتاج الى كلمات فارغة بل الى صانعي سلام منفتحين على الحوار” فلا شك أن البابا فرنسيس هو أولهم وأشجعهم، وله في قلوب اللبنانيين كل التقدير والمحبة.
أصحاب السعادة،
لقد تضافرت عوامل عدة، منها ما هو خارجي ومنها ما هو داخلي، لتنتج أسوأ أزمة اقتصادية ومالية واجتماعية ضربت لبنان؛ خارجياً كان للأزمات الاقتصادية في العالم انعكاسٌ سيء على اقتصادنا، أضيفت اليها حروب الجوار التي حاصرت لبنان وأغلقت بوجهه مدّه الحيوي وأسواق التصدير ولمّا تزل، ما أثر بشكل كبير على القطاع التجاري والصناعي والزراعي فيه، كما أفرزت أثقل أزمة على اقتصاده المنهك أصلاً وأعني أزمة النزوح التي أدخلت إليه ما يقارب نصف عدد سكانه الأصليين. وليكتمل المشهد جاء الحصار المالي الذي حدّ من انسياب الأموال من الخارج، وتسبب بأذى كبير للاقتصاد اللبناني وللسوق المالية.
داخلياً، يدفع لبنان ثمن تراكم ثلاثين عاماً من سياسات اقتصادية ومالية خاطئة اعتمدت على الاقتصاد الريعي والاستدانة، على حساب الانتاج خصوصاً في ميدان الصناعة والزراعة، إضافة الى فساد وهدر في الإدارة على مدى عقود.
منذ بداية هذا العهد شكّل الوضع الاقتصادي والمالي الهمّ الأكبر، فكان إقرار مراسيم استخراج النفط والغاز البند الأول على جدول أعمال الجلسة الحكومية الأولى، وتم وضع خطة اقتصادية وطنية شاملة، وأقرت مشاريع لتحديث البنى التحتية، وتمويلها من الجهات المانحة في إطار مؤتمر سيدر. إلا أن الخطط بقيت من دون تنفيذ.
مالياً، سعيت بقوة لعودة المالية العامة لكنف الدستور وقانون المحاسبة العمومية، فأقرت ٣ موازنات بعد ١٢ عاماً على انقطاعها، وعلى الصرف العشوائي المخالف للدستور.
نعم، بذلتُ جهوداً كبيرة للمعالجات الاقتصادية ولكنها لم تأتِ بكل النتائج المأمولة لأن الوضع كان سيئاً والعراقيل كثيرة. وقد أدّى الضغط الاقتصادي المتزايد الى نزول الناس الى الشارع بمطالب معيشية محقة وبمطلب جامع لكل اللبنانيين وهو محاربة الفساد.
لقد شكّلت التظاهرات خصوصاً في بداياتها، فرصة حقيقية لتحقيق الاصلاح المنشود لأنها هزّت المحميات الطائفية والسياسية وقطعت الخطوط الحمر وباتت المحاسبة ممكنة، وأعطت دفعاً قوياً للقضاء فتحرك في أكثر من اتجاه، وأقرت الحكومة السابقة ورقة اصلاحات كان يستحيل اقرارها في السابق.
ولكن محاولات استغلال بعض القوى السياسية للتحركات الشعبية أدّت الى تشتّت بعضها وإغراقها في راديكالية رافضة، وأفقدتها الوحدة التي انطلقت منها للمطالبة بإحداث التغيير، كذلك نمط الشائعات المعتمَد من بعض الإعلام وبعض المتظاهرين، حرّف بعض الحراك عن تحديد مكامن الفساد الحقيقي وصانعيه بصورة صحيحة، ولا زلت أعوّل على اللبنانيين الطيبين في الشوارع والمنازل لمحاربة الفساد.
من ناحية أخرى، تعامل الجيش والقوى الأمنية بحكمة كبيرة مع هذه الحركة الشعبية، فأمّنوا أمن المتظاهرين وسلامتهم، وحفظوا حريتهم في التعبير، كما سعوا للمحافظة أيضاً على حرية المواطنين وحقهم في التنقل والذهاب الى أعمالهم ومنازلهم. لكن هذا الوضع فاقم الأزمة الاقتصادية كما انعكس سلباً على الوضع الأمني، وقد أدى الى ارتفاع معدل الجريمة بجميع أنواعها بعد أن كنّا حققنا تقدّما لافتاً في خفضه في العامين المنصرمين.
لقد كانت ولادة الحكومة منتظرة خلال الاسبوع الماضي، ولكن بعض العراقيل حالت دون ذلك. وعلى الرغم من اننا لا نملك ترف التأخير، فإن تشكيل هذه الحكومة يتطلّب اختيار أشخاص جديرين يستحقون ثقة الناس والمجلس النيابي مما تطلب بعض الوقت؛ فالمطلوب حكومة لديها برنامج محدد وسريع للتعامل مع الأزمة الاقتصادية والمالية الضاغطة، ومجابهة التحديات الكبيرة التي تواجه لبنان وكل المنطقة. وسنبقى نبذل كل الجهود الممكنة للتوصل الى الحكومة الموعودة، مقدّمين المصلحة الوطنية العليا على أي اعتبار آخر.
أصحاب السعادة،
إضافة الى كل الصعوبات الحالية، لا تزال أزمة النازحين تضغط بكل ثقلها على جميع الصعد في وقت لم يتحمّل المجتمع الدولي فعلياً مسؤولياته، لا في دعم العودة، ولا في دعم لبنان للتخفيف من تأثير هذا النزوح، فقدم بعض المساعدات للنازحين لم ينل لبنان منها الا القليل، مع كلام الإطراء للدور الانساني الذي يقوم به، وكلامٍ سياسي عن ربط العودة بالتوصل الى حل سياسي.
لقد تفهمنا اسباب النزوح وقدّمنا كل ما يمكن من تعاون ومساعدة طوال سنوات، ولكننا اليوم لا نفهم المواقف الضاغطة لعرقلة العودة، ويحق لنا أن نرسم علامات استفهام كبرى تجاه هذه اللامبالاة الدولية، خصوصاً بعدما حملت معي هذه الأزمة الى جميع المنابر الدولية والعربية، شارحاً كل الأعباء والتداعيات المترتبة عنها على لبنان. ووسط كل هذه الأجواء الضاغطة، ثمة مؤشرات إيجابية نتوقعها في الآتي من الأيام مع بدء لبنان أعمال التنقيب عن ثرواته الطبيعية في مياهه الاقليمية، وهنا نجدد التأكيد على تمسكنا بحقنا باستثمار كافة حقولنا النفطية، ورفضنا لأي محاولة إسرائيلية للاعتداء عليها، وتشديدنا على ضرورة تثبيت الحدود البرية وترسيم البحرية، لما للأمر من فائدة على الاستقرار والهدوء، تأميناً لحقوق لبنان وللمناخ الاستثماري اللازم.
أصحاب السعادة،
على الرغم من أن العام 2019 انتهى بأزمة كبيرة، إلا أنه شهد محطات دولية مهمة للبنان، أولها تكريس وطننا مساحة تلاقٍ وحوار بين الحضارات والديانات والثقافات، من خلال تصويت الجمعية العامة للأمم المتحدة على إنشاء “اكاديمية الانسان للتلاقي والحوار” على أرضنا. فمع كل الغليان حولنا يتأكد أكثر فأكثر ان الانفتاح والحوار والتعرف الى الآخر، هي أسس بناء السلام والاستقرار ومواجهة أفكار التطرف والعزلة والانغلاق. وتأتي أيضاً استضافة لبنان للمقرّ الاقليمي للمنظمة الدولية للفرنكوفونية في الشرق الأوسط، والذي نصبو إلى افتتاحه في بيروت بالتنسيق مع المنظمة، والبدء بعمله خلال العام الحالي، للتأكيد على دور لبنان في محيطه والعالم.
أصحاب السعادة،
قدر لبنان ورسالته أن يكون أرض سلام وحوار وتسامح، ولذلك وجب الحفاظ على الاستقرار والتعايش فيه، من هنا تمسّكنا بالقرار 1701 وبالقرارات الدولية والشرعية الدولية القائمة على العدالة والحق بتأمين استعادة حقوقنا وأرضنا ومنع التوطين في لبنان، وكذلك تمسّكنا بمبدأ تحييد لبنان عن مشاكل المنطقة وإبعاده عن محاورها لإبعاد نيرانها عنه من دون التفريط بقوة لبنان وحقه في المقاومة وقيام استراتيجية دفاعية تعزّز هذه الفرصة بالتفاهم بين كل اللبنانيين.
أصحاب السعادة،
إن لبنان يحيي هذا العام الذكرى المئوية الاولى لإعلان “دولة لبنان الكبير”، واني لواثق ان هذه المئوية ستشكل فرصة ملائمة، وسط جميع عوامل القلق وضبابية الرؤية، لإعادة اكتشاف دور لبنان ومكانته، واكثر: فرصة ملائمة لتجديد الالتزام من قبل جميع اللبنانيين بتحدي بناء وطن يليق بالإنسان وكرامته، ويرتقي الى ما منحه الله من عطية لأرضنا كي تكون رسالة، تتحقق بالفكر والعمل وارادة أبناء هذا الوطن.”
وفي ختام الحفل، اقيم حفل كوكتيل للمناسبة.