لم يعد خافياً على ايّ متابع لمجريات ما يحصل في العراق ولبنان، انّ هناك خطة أميركية بدأت واشنطن تنفيذها مستغلة الأزمات الاقتصادية والاجتماعية التي تسبّبت بها سياسة الحصار الاقتصادي والمالي الأميركية ضدّ دول وقوى محور المقاومة بهدف إجهاض انتصاراته على المشروع الأميركي وإحباط أهدافه التي سعى إليها عبر قوى الإرهاب التكفيري ذات الصناعة الأميركية السعودية.. وظهرت هذه الخطة إلى العلن فور حصول الاحتجاجات الاجتماعية نتيجة تفاقم الأزمات المعيشية والاقتصادية وارتفاع الأسعار ونسب البطالة، حيث سارعت واشنطن إلى العمل على استغلالها ودفع القوى والجماعات التابعة لها والممولة من قبلها، او من قبل أنظمة النفط العربية، لأجل صبّ الزيت على نار هذه الاحتجاجات وركوب موجتها واستغلالها والعمل على توجيهها بوساطة الوسائل الإعلامية القوية المدعومة بالمال والتقنيات المتطوّرة للقيام بدور تحريض وتعبئة الجمهور الذي نزل إلى الشوارع والساحات بعفوية نتيجة اشتداد أزماته الاجتماعية.. وتنوّعت وسائل التدخل الأميركي بين بلد وآخر حسب ظروف كلّ بلد ومدى النفوذ الأميركي والجماعات التابعة له…
ففي العراق ولبنان هناك نفوذ قوي لواشنطن داخل السلطات التنفيذية والجيش والأجهزة الأمنية إلى جانب وجود قوى وأطراف في السلطة وخارجها وبعض جماعات المجتمع المدني التي تتلقى الدعم من منظمات ووكالات غربية أبرزها وكالة التنمية الأميركية، ولهذا نجحت في استغلال التظاهرات الاجتماعية المطلبية وإثارة الفوضى عبر قطع الطرق وإشعال الإطارات وتعطيل المؤسسات، وصولاً إلى إثارة التخريب والشغب في العراق بوساطة مجموعات منظمة اخترقت التظاهرات وأطلقت النار على قوى الجيش والأمن بهدف إسقاط الحكومة وتشكيل حكومة انتقالية وإجراء انتخابات جديدة تمكنها من تعديل موازين القوى في البرلمان، وبالتالي تشكيل حكومة تتبنّى برنامجاً ينسجم مع الاستراتيجية الأميركية في العمل على إضعاف قوى الحشد الشعبي وإعادة إغلاق معبر القائم البوكمال مع سورية والنيل من العلاقة العراقية الإيرانية، مستفيدة من ثغرات الحكومة العراقية واستشراء الفساد وتفاقم الأزمات الاقتصادية والاجتماعية والخدماتية رغم توافر المال من عائدات النفط.. فيما لجأت القوى والأطراف الموالية لواشنطن، في لبنان، إلى توظيف وسائل الإعلام التابعة لها او المموّلة خليجياً، وقواها المنظمة، إلى جانب توحيد جهودها في إطار خطة منظمة متدرّجة وضعت لها سيناريوات وشعارات محدّدة لطبع الانتفاضة العفوية بطابعها وبالتالي استثمارها في سياق العمل على تحقيق انقلاب سياسي في السلطة السياسية بما يمكن واشنطن من تعزيز هيمنتها على لبنان وإقصاء المقاومة وإضعاف حلفائها.. وقد ساعدها على ذلك تبعثر وعدم توحد القوى الوطنية المنخرطة في الانتفاضة حول برنامج وطني اقتصادي اجتماعي إصلاحي يحرص ويحافظ على إنجازات المقاومة ويدعو الى تحرير لبنان من الهيمنة الأميركية، كما ساعدها عدم انخراط القوى الوطنية الأخرى في الانتفاضة وقيادة النضال لتحقيق مطالب الناس التي طالما طالبت بها ومنع استغلالها من قبل قوى 14 آذار وغيرها. ولهذا دخل لبنان، في خضمّ أزمة سياسية وحالة من الفوضى الهادفة حسب دراسة نشرها معهد واشنطن الى إسقاط «هياكل الدولة العميقة.. وتنظيم انتخابات جديدة يُعتدّ بها»، والمطلوب الضغط من أجل «تشكيل حكومة انتقالية تعيد النظر في الهيكل السياسي ككلّ»، ويرى واضعو الدراسة «أنّ تشكيل حكومة جديدة من الخبراء أمر ممكن، لكنه يحتاج إلى توافق الأحزاب السياسية.. وقد تتوصل الأحزاب السياسية إلى هذا التوافق ما ان تدرك انّ البلاد ستغرق في لجج الفوضى في حال استمرّت في تجاهل المتظاهرين أو حاولت استغلال الوضع الراهن لتسوية حسابات محلية».. وهذا يؤشر إلى أنّ هناك توجهاً بالتهديد بدفع الأمور نحو إغراق لبنان في الفوضى الهدّامة لأجل إجبار الفريق الوطني في السلطة لقبول تشكيل حكومة خبراء، يجب أن تكون حسب رأي الباحثين، الذين اعدّوا الدراسة، «حكومة فعّالة بصلاحيات تنفيذية وتشريعية»…
هذا السيناريو الهادف الى استغلال الانتفاضة الشعبية العفوية في لبنان لتنفيذ انقلاب سياسي على غرار انقلاب 2005، يؤدّي إلى إحداث تغيير في المعادلة السياسية لمصلحة الفريق التابع لواشنطن، وذلك عبر السيطرة أولاً على الحكومة وثانياً إجراء انتخابات نيابية مبكرة في أجواء التأجّج الشعبي والحملة الإعلامية الموجهة ضدّ الفريق الوطني والمقاومة تقود إلى المجيء بأغلبية نيابية من القوى والجهات والأطراف التي تدور في فلك السياسة الأميركية، وثالثاً يجري بعد ذلك تشكيل حكومة تنفذ بالكامل التوجيهات الأميركية وفي مقدّمها العودة إلى طرح نزع سلاح المقاومة، لا سيما الصواريخ النوعية والدقيقة التي تهدّد أمن كيان الاحتلال الصهيوني، وإعادة تحويل لبنان إلى منصة للتحريض على سورية بما يعيد سياسة القطيعة والعداء التي انتهجتها قوى 14 آذار اثر جريمة اغتيال الرئيس رفيق الحريري…
هذا المخطط الأميركي الذي يجري العمل على تنفيذه في لبنان يتبدّى اليوم بشكل جلي من خلال طبيعة الشعار السياسي الذي يجري الترويج له في التحركات في الشارع وهو الإصرار على تشكيل حكومة تكنوقراط غير سياسية تتمتع بصلاحيات استثنائية وتشريعية تحضر لانتخابات مبكرة.. وهذا الشعار هو نفسه الذي دعا إليه الباحثون معدّو الدراسة في معهد واشنطن للدراسات المتعلقة بسياسات الشرق الأوسط، ولتحقيق هذا الهدف تمّ تعطيل انعقاد جلسة مجلس النواب ورفض تشكيل حكومة تكنو سياسية.. وجعل البلاد في حالة من الشلل الاقتصادي وبالتالي دفعه إلى الانهيار الاقتصادي نتيجة هذا الشلل الذي يقدّر الخبراء خسائره بعد مرور شهر على اندلاع الانتفاضة بين مليارين وثلاثة مليارات دولار…
لكن من الواضح أنّ الفريق الوطني اخذ قراراً حازماً برفض ايّ تنازل يطيح بالمعادلة السياسية ونتائج الانتخابات النيابية.. وهو يصرّ على موقفه بتشكيل حكومة جديدة تكنوسياسية تعكس توازنات البرلمان، بعد تقديم الرئيس الحريري استقالة حكومته، ايّ العودة إلى حكومة توافقية..
في ظلّ هذا الموقف فإنّ لبنان دخل في معركة أشبه ما تكون بمعركة عضّ أصابع، فاشتداد الأزمة الاقتصادية والمالية يتضرّر منها الجميع وهي تضغط على كلّ الأطراف.. ومن الواضح أنّ الطرف الأكثر تضرراً هو الرئيس سعد الحريري وفريقه، فهو من يملك المصالح الاقتصادية الأكبر في السلطة والمؤسسات المالية وشركة سوليدير.. وبالتالي فإنّ أيّ إطالة في أمد الأزمة سوف يؤدّي إلى خسائر كبيرة بهذه المؤسسات والشركات المالية والعقارية.. في حين انّ المقاومة المستهدف الأول من التهديد بالفوضى، ليس لديها مثل هذه المصالح، وهي لن تتأثر كما قال قائدها السيد حسن نصرالله من إطالة أمد الأزمة.. على أنّ الناس الذين نزلوا بعفوية إلى الساحات احتجاجاً على تفاقم الأزمات الاجتماعية والاقتصادية، والمطالبة بتحسين قدرتهم الشرائية وإيجاد فرص العمل، أول من بدأ يدفع ثمن التمترس والانسياق خلف شعار حكومة تكنوقراط، وتعطيل جلسات البرلمان، وبالتالي الإبتعاد عن المطالب الأساسية التي نادوا بها في الأيام الأولى لانتفاضتهم.. وظهر ذلك من خلال ارتفاع الأسعار وتفاقم الأزمة الاقتصادية وتوقف العديد من المؤسّسات والمحال عن العمل وتسريح عمالها..
حسن حردان – البناء