منذ بدء الحراك الشعبي بلبنان، في 17 تشرين الأول الماضي، يضع الجيش اللبناني 90 في المائة من عديده قيد الحجز في الخدمة، لضمان جهوزية كاملة لمواكبة التطورات المتسارعة، فيما تتجه الأنظار إلى المؤسسة العسكرية التي تعد من أكثر المؤسسات الرسمية في معيار الثقة لدى اللبنانيين، والتي كانت تنهمر عليها الدعوات في بداية الحراك للتدخل والانقلاب على الوضع، وهي دعوة لن تلقى بالطبع آذاناً مصغية من جيش يعرف دقة التوازنات اللبنانية جيداً.
وتلفت التقارير الأمنية المرفوعة للمسؤولين اللبنانيين إلى أن الغالبية الكبرى من الذين نزلوا إلى الطرقات للاحتجاج هم من فئة الطلاب، سواء في السنوات المدرسية النهائية أو في المراحل الجامعية المبكرة، مع إضافة صغيرة على الهامش تلفت إلى أن هؤلاء سيقترعون في الانتخابات البرلمانية المقبلة في عام 2022. ومن الملاحظات التي توردها هذه التقارير أن الفقراء لم ينزلوا إلى الشارع وحدهم، بل كان معهم كثير من الميسورين الذين يريدون أن يعبروا عن الاستياء مما آلت إليه أحوال البلاد.
وتجزم هذه التقارير بأن الأيام الثلاثة الأولى من الحراك كانت عبارة عن «صفر سياسة»، مشيرة إلى أن الحزبيين تأخروا حتى اليوم الرابع، من دون أن يكون لديهم حضور حزبي واضح، وهذا مرده أن نقمة الناس توسعت لتشمل الجميع، مع تسجيل بعض الملاحظات حول التوزيع الحزبي لبعض مناطق المظاهرات، كحال نقطة جل الديب شمال بيروت، ونقطة دوار إيليا في مدينة صيدا، ودوار كفر رمان قرب مدينة النبطية جنوباً.
ويلاحظ مسؤول لبناني مطلع على الملفات الأمنية أن هذا الحراك ما يزال حتى الساعة من دون قيادات واضحة، وفي هذا نقطة قوة وضعف في آن، معتبراً أن إفراز القيادات تأخر، فالسلطة لا تجد من يحاورها، والحراك ما يزال من دون قيادة ومطالب موحدة، آخذاً على السلطة السياسية أنها ما تزال تفكر بعقلية الرهان على تعب الحراك مع الوقت، وهو ما لم يحصل بعد شهر على انطلاقته.
وعن استراتيجية الجيش اللبناني في موضوع الحراك، يقول المصدر إنها تختصر بعبارة واحدة هي «ممنوع الدم». ولا يخفي أن بعض من في السلطة كان يرغب في استعمال القوة لفتح الطرقات، إلا أنه أكد أن أي تعليمات سياسية لم يتلقاها الجيش لقمع المظاهرات وفتح الطرقات بالقوة. ويقول المسؤول إن الجيش يتبع دستورياً لسلطة مجلس الوزراء مجتمعاً، ولما كان مجلس الوزراء لم يجتمع منذ اندلاع الأزمة، ولا مجلس الدفاع الأعلى، فإن أي تعليمات سياسية لم تعطَ للجيش لاعتمادها، ولهذا كان على الجيش أن يقيم الوضع، ويتصرف انطلاقاً من رؤيته للمصلحة الوطنية العليا، فالمتظاهر لبناني، وليس إرهابياً ولا عدواً خارجياً، وبالتالي من واجبات المؤسسات العسكرية حمايته، وفي الوقت نفسه حماية المؤسسات العامة والممتلكات الخاصة، مشيراً إلى عائق وحيد هو إقفال الطرقات، وهو ما حاول الجيش معالجته بالحوار وببعض الإجراءات الحازمة، مع الحرص على عدم الصدام. ويؤكد أن القيادة مقتنعة بالقرار الذي اتخذته، وهي ستتخذه مجدداً في ظروف مشابهة.
وعن بعض الصدامات مع المواطنين، يقول المصدر إنها أتت بالحد الأدنى الممكن، نظراً لأن الجيش غير مدرب وغير مجهز لمواجهة أي حراك مدني. فالجيش يتدرب عادة لمواجهة عدو خارجي، ولا يوجد لديه معدات للضغط على المتظاهرين، إلا بعض القنابل الدخانية وبعض الرصاص المطاطي الذي يمكن أن يكون قاتلاً عند مسافة أقل من 5 أمتار، مما يجعلنا غير قادرين على استعماله، ولا يوجد لدى الجيش سيارات لرش المياه على المتظاهرين، كما لا يوجد لديه أدوات أخرى تستعملها عادة شرطة مكافحة الشغب، مشيراً إلى أن قوى الأمن الداخلي بدورها كانت عاجزة عن مواكبة الحراك الذي حصل دفعة واحدة في كل مناطق لبنان.
وعن قدرة الجيش على الاستمرار، يؤكد المصدر أن المؤسسة العسكرية تحتجز في الخدمة حالياً 90 في المائة من الجنود منذ نحو شهر من دون توقف، مما يرمي بثقله على المؤسسة ويزيد الضغوط عليها، لكننا مستمرون في تأدية واجباتنا.
وأوضح أن الجيش لا يستطيع أن يسحب جنوده من الحدود الجنوبية في مواجهة الخطر الإسرائيلي، ولا من الحدود الشرقية لمكافحة التهريب والمتسللين من المتطرفين، مؤكداً أن عين الجيش ليست غافلة عن المخاطر الأمنية التي تحدق بلبنان، فالفوضى هي صديقة الإرهابيين، ولهذا يتشدد الجيش أكثر في المتابعة والتدقيق، لمنع انفلات الأمور، معتبراً أن كل الأحداث المماثلة التي حصلت في لبنان كانت تنتهي بأحداث أمنية تكبح جماح التحركات، ما يستوجب وعياً أمنياً أكبر. وعن مخاطر الحرب الأهلية، لا يخفي المرجع وجود مخاوف، خصوصاً بعد المواجهات التي حصلت في أكثر من مكان، لكنه يبدي اطمئناناً حيال الموضوع نتيجة وعي اللبنانيين، وعدم دفع القيادات السياسية في هذا الاتجاه.
ثائر عباس – الشرق الأوسط