تظهر المؤشرات الإقتصادية والمالية انكماشا في الاقتصاد؛ عجزا كبيرا في المالية العامة؛ تراجعا في إمكانيات الدولة في تحمّل الدين وكلفته؛ عجزا قياسيا في ميزان المدفوعات؛ استنزافا لاحتياطي مصرف لبنان بالعملات الاجنبية؛ تراجعا في التدفقات المالية؛ ضغوطا في سوق القطع؛ ظهور سوقين لسعر صرف الدولار، سعر عند الصيرفة وسعر عند المصارف.
في ظل التطورات السياسية والاقتصاد والمالية الحالية، صارت الأولوية لتأليف حكومة جديدة، تكون مزيجا من الوجوه السياسية والتكنوقراطية التي من شأنها أن تحدث صدمة إيجابية لدى الرأي العام اللبناني.
ما هي السيناريوهات التي يمكن أن يواجهها لبنان في المرحلة المقبلة؟
السيناريو الاول؛ الحفاظ على سياسة الاستقرار النقدي:
تستطيع الحكومة اللبنانية الجديدة، أن تكون شريكة في الحفاظ على الاستقرار النقدي، وبالتالي، الاستقرار الاقتصادي والاجتماعي، شرط قيامها بإصلاحات جريئة وجذرية في ماليتها العامة؛ الكهرباء؛ ميزان المدفوعات؛ الاقتصاد؛ اصلاحات تعيد الثقة المفقودة؛ خفض معدلات الفوائد؛ تقليص الدين العام وخدمته؛ تنشيط الاقتصاد؛ إعادة التدفقات المالية؛ تهدئة سوق القطع؛ تخفيف الضغط على الدولار، خصوصا وان مصرف لبنان يملك الامكانيات لسداد استحقاقات الدولة بالعملات الاجنبية للاعوام 2019 – 2021.
السيناريو الثاني؛ “تعويم” سعر صرف الليرة:
يؤدي تعويم سعر صرف الليرة، الى التبعات الايجابية الآتية:
1- خفض القيمة الفعلية للدين العام بالليرة اللبنانية والبالغ 58.5 مليار دولار نتيجة تدهور سعر صرف الليرة (62.3% من اجمالي الدين). تجدر الاشارة الى ان حصة القطاع المصرفي لا تتجاوز 33.4% من اجمالي الدين بالليرة ما يعادل 17.76 مليار دولار والباقي 66.3% لمصرف لبنان والمؤسسات العامة.
2- تراجع الاستيراد بسبب أجواء عدم اليقين وضعف الاستهلاك وعدم توفّر الاموال بالعملات الاجنبية ما ينعكس ايجابا على عجز الميزان التجاري.
3- إفادة محدودة من القدرة التنافسية للصادرات اللبنانية بسبب نوعية السلع المصدرة.
4- إفادة محدودة على صعيد القطاع السياحي بسبب النمط السياحي في لبنان والاسعار المعتمدة في القطاع.
5- إفادة المقترضين بالليرة نتيجة تدهور سعر صرف الليرة.
6- خفض القيمة الفعلية للانفاق العام لا سيما قيمة الرواتب والاجور ومعاشات التقاعد ونهاية الخدمة نتيجة تدهور سعر صرف الليرة.
في المقابل يؤدي قرار “تعويم” سعر صرف الليرة الى التبعات السلبية التالية:
- تدهور قوي لسعر صرف الليرة.
- ارتفاع ملحوظ لاسعار السلع والخدمات حيث يستورد لبنان 75% من احتياجاته.
- انهيار القدرة الشرائية، اذ يؤدي التعويم الى انهيار قيمة الليرة، ما يتسبب في خسارة صغار المودعين من قيمة مدخراتهم، وكذلك يخسر الموظفون والعمال من قيمة رواتبهم ومعاشاتهم، وكذلك يخسر المتقاعدون من قيمة معاشاتهم التقاعدية البالغة 14 الف مليار ليرة، كما يتسبب بمشكلات مالية كبيرة للافراد والمؤسسات المقترضة بالدولار (70% من القروض، أي ما يعادل 40 مليار دولار).
- فقدان الثقة بالنظام المالي والمصرفي: يؤدي الى تراجع التدفقات المالية والتحويلات، وتراجع حاد لاسعار الاسهم وسندات اليوروبوند في الاسواق المالية المحلية والخارجية، وزيادة حجم القروض المتعثرة كما يؤدي الى إرباكات وضغط في سوق القطع، وتقلبات وارتفاعات حادة في سعر صرف الدولار.
- إنكماش اقتصادي حاد بسبب أجواء عدم اليقين الذي ينعكس على الاستهلاك ويبعد المستثمرين
- تفاقم أزمة بعض القطاعات الاقتصادية لا سيما أزمة القطاع العقاري الذي سيشهد هبوطا اضافيا في أسعاره.
- إنفلات وفوضى مالية واجتماعية ما يؤدي الى زعزعة الاستقرار السياسي والامني والاجتماعي.
- تزايد معدلات البطالة والفقر نتيجة إقفال المؤسسات وصرف العمال، وتوقف الاستثمارات.
السيناريو الثالث، إعادة هيكلة الدين العام:
تصبح مسألة إعادة هيكلة الدين ضرورية وملزمة للدولة عندما تصبح غير قادرة على سداد دينها بالعملات الاجنبية وكلفته. لذلك، فإن إعادة هيكلة الدين العام تعني الآتي: استبدال دين سيادي قديم للدولة بدين سيادي جديد بعد التفاوض مع الجهات الدائنة على القيمة الاسمية والفائدة والاجل للسند السيادي الجديد.
يبلغ الدين العام بالعملات الاجنبية والقابل لاعادة الهيكلة 30.1 مليار دولار (سندات يوروبوند) موزع على الشكل التالي:
– القطاع المصرفي: 15.5 مليار دولار (51.5% من اجمالي الدين)
– مصرف لبنان: 2.7 مليار دولار (9% من اجمالي الدين)
– الصناديق الاستثمارية: 11.9 مليار دولار (39.5% من اجمالي الدين)
هنا تجدر الملاحظة أن الصناديق الاستثمارية تستطيع رفض اعادة هيكلة الدين ورفع دعاوى ضد الدولة اللبنانية أمام محاكم نيويورك، ما يجعلها قادرة على حجز مخزون الذهب اللبناني في الولايات المتحدة.
أما الدين العام المحرر بالليرة اللبنانية والبالغ 53.2 مليار دولار (80235 مليار ليرة)، فيخسر من قيمته الفعلية نتيجة تدهور سعر صرف الليرة مقابل الدولار (يتوزع الدين العام المحرر بالليرة: 53% مصرف لبنان، 33% المصارف، 14% المؤسسات العامة)
السيناريو الرابع؛ توصيات صندوق النقد الدولي لاعادة هيكلة الدين:
سيضطر لبنان للاستعانة بصندوق النقد الدولي لتنفيذ عملية اعادة هيكلة الدين الذي سيفرض توصيات وفق نموذجي اليونان وقبرص مثل: خفض عدد الموظفين في القطاع العام، إقتطاع نسبة من الرواتب والاجور، خفض معاشات التقاعد، زيادة رسوم الضريبة على القيمة المضافة، زيادة الرسوم على البنزين والضرائب على أرباح الشركات…
السيناريو الخامس؛ التجارب الدولية لاعادة هيكلة الدين:
دعونا نتحدث عن تجربة ثلاث دول هي الأرجنتين واليونان وقبرص:
- تجربة الارجنتين:
في العام 2005 تمت عملية اعادة هيكلة الدين من خلال استبدال سندات دين سيادية قديمة بأخرى جديدة مع إقتطاع 60% من القيمة الاسمية للسند القديم (Haircut). إستطاعت الدولة الارجنتينية استبدال 76% من السندات القديمة مع رفض 24% من أصحاب السندات الذين رفعوا دعاوى ضد الدولة الارجنتينية أمام المحاكم في نيويورك.
- تجربة اليونان:
في العام 2012 قررت الترويكا (UE-IMF-BCE) إعادة هيكلة دين اليونان من خلال خفض القيمة الاسمية للدين بنسبة تراوح بين 50-60% لحاملي الدين السيادي في “القطاع الخاص”. Haircut)). إعتبر لاحقا مسؤولو الترويكا ان اعادة هيكلة الدين العام بإقتطاع جزء من الدين لم تصب في مصلحة الدولة اليونانية أو المواطنين وتتعارض مع مبادئ الاتحاد الاوروبي.
- تجربة قبرص:
كانت أزمة قبرص في البداية أزمة مصرفية ثم تحولت لاحقا الى أزمة ديون سيادية. تعود الازمة المصرفية الى انكشاف أكبر مصرفين Cyprus Bank و Laiki Bank على الديون السيادية اليونانية والمؤسسات اليونانية وتعود ايضا الى انفجار الفقاعة العقارية في الجزيرة، مما أدى الى تكبد المصرفين خسائر كبيرة واضطرار الحكومة الى التدخل لانقاذ المصرفين من خلال اقتطاع نسبـــة تتراوح بيــن 37 إلى 60 في المئة من أموال مودعي المصرفين.
أدت الازمة المصرفية الى أزمة ديون سيادية ما دفع بالدولة القبرصية الى اعادة هيكلة ديونها من خلال طلب استبدال سندات دين سيادية قديمة بقيمة مليار يورو تستحق في فترة 2013-2016 بسندات دين جديدة مع إطالة آجالها بين 5 و 10 سنوات مع نفس معدلات الفوائد والقيمة الاسمية. تجدر الاشارة الى ان صندوق النقد الدولي اقترح على قبرص أثناء إعادة هيكلة الدين إقتطاع جزء من الدين السيادي (Haircut) ولكن دول الاتحاد الاوروبي رفضت الاقتراح.
ما زال لبنان يمتلك إمكانيات تجنب الوقوع في كارثة اقتصادية ومالية واجتماعية، وتجنب الدخول في دهاليز الدول “المتخلّـفة عن سداد ديونها” ولكن يفترض به وبشكل فوري، تنفيذ اجراءات اصلاحية جريئة وجدية على صعيد إعادة هيكلة القطاع العام، اصلاح الكهرباء، مكافحة الفساد والهدر، ومعالجة الخلل في ميزان المدفوعات.
باتت الفرص ضيقة والخيارات محدودة. زمن التردد قد إنتهى. مواسم الترقيع أو التأجيل أو المقايضات إستخدمناها وأوصلتنا إلى طريق مسدود. المعادلة واضحة اليوم: إما الانقاذ أو الانهيار.