كتبت “النهار” تقول:قد تكون جوانب من المشهد “الميداني” الموزع بين مناطق عدة ليل أمس أفضل تعبير عن الواقع الغامض الذي تجتازه البلاد غداة اعلان رئيس الحكومة سعد الحريري استقالة حكومته ومع طلب رئيس الجمهورية العماد ميشال عون منها تصريف الأعمال وقبيل اعلان الرئاسة الاولى موعد اجراء الاستشارات النيابية الملزمة لتكليف رئيس لحكومة جديدة. ذلك أن الانتفاضة التي استجاب بعضها نهاراً لبيان قيادة الجيش بفتح الطرق ولم يستجب بعضها الآخر مما دفع بالجيش الى فتح طرق رئيسية بنفسه، عادت ليل أمس لتثير تساؤلات عما اذا كانت الايام الطالعة ستشهد “هدنة” من أجل تمرير المراحل الأولى الأساسية من انطلاق عملية التكليف وتأليف الحكومة، أم أن الهدنة لن تكون واردة في ظل اتجاهات لدى الانتفاضة للمضي في التصعيد بمنع فتح المدراس والجامعات على الأقل؟
وقد ارتسمت هذه الشكوك وعادت تسابق بل تستبق الاتصالات والمساعي السياسية الجارية لاطلاق المرحلة التالية من استحقاق التغيير الحكومي من خلال تحركات كثيفة عادت الى شوارع عدة ليل امس من أبرزها انطلاقة لافتة للشارع المؤيّد للرئيس الحريري و”تيار المستقبل” عبر مسيرات سيارة وبالدراجات في شوارع وأحياء من بيروت، كما عبر تجمعات وتظاهرات مؤيدة للحريري ومنادية بعودته الى رئاسة الحكومة في عكار وطرابلس وبعض مناطق البقاع وسواها من المناطق، ونادى المتظاهرون بشعار “كلن يعني كلن” رفضا لاقتصار الاستقالة على الرئيس الحريري وحده. وفي موازاة ذلك شهدت ساحة النور في طرابلس اعتصاماً حاشداً أطلقت من خلاله دعوات الى استمرار الانتفاضة والامتناع عن اعادة الحياة الطبيعية اليومية والاستمرار في قطع الطرق كما لاقت هذه الدعوات استجابة من بعض المنتفضين في مناطق أخرى في بيروت وصيدا والبقاع الشمالي من غير أن تخلص الى قرار موحد.
ومنع الجيش ليلاً قطع الطرق عند مستديرة العبدة في عكار بعد مواجهة مع المتظاهرين الذين حاولوا اقفالها وسقط عدد من الجرحى خلالها. كما حصلت مواجهة مماثلة في صيدا وأعيد ليلاً قطع بعض الطرق في مناطق الشمال والبقاع، ومن ثم تمددت عمليات قطع الطرق الى جسر “الرينغ” في وسط بيروت. وتسبب التوتر بتراجع عديد من المدارس عن قرار معاودة الدراسة اليوم.
وفي المقابل، يستعد “التيار الوطني الحر” لاقامة مهرجان حاشد في بعبدا الاحد المقبل احياء للذكرى الثالثة لانتخاب الرئيس ميشال عون، علماً أن اليوم هو الذي يصادف الذكرى وسيوجه رئيس الجمهورية كلمة في المناسبة الى اللبنانيين في الثامنة مساءً.
ماذا عن صورة المشهد السياسي غداة استقالة الرئيس الحريري ؟
الخطوة الأولى في قصر بعبدا غداة استقالة رئيس الوزراء كانت طلب رئيس الجمهورية الحكومة الاستمرار في تصريف الأعمال ريثما تشكل حكومة جديدة. ولم ترشح معلومات عن مضمون الكلمة التي سيلقيها عون مساء علماً أن تزامن الذكرى الثالثة لانتخابه وتسارع التطورات الخطيرة الجارية يضع النصف الثاني من عهده أمام مجهر مكبر من الشكوك الكبيرة بعدما شهدت البلاد انزلاقا نحو احدى أخطر أزماتها في ظل العهد.
أما الاستشارات لتكليف رئيس حكومة جديدة فيبدو أن ثمة تريثاً في تحديد مواعيدها ربما الى مطلع الأسبوع المقبل، وذلك في انتظار أن تتوضح مواقف القوى السياسية من الاسم المرشح ومن صيغة الحكومة المقبلة.
وتفيد المعلومات المتوافرة عن أجواء بعبدا، أن عودة الرئيس الحريري الى رئاسة الحكومة هو الخيار الأول لكنه ليس الخيار الوحيد، على ألا أكون هناك شروط مسبقة تقابل بشروط مضادة.
لكن مصادر أخرى، اشارت الى أن الرئيس الحريري يطرح تشكيل حكومة حيادية إنقاذية تقوم على فصل الوزارة عن النيابة، والقوى السياسية ولا سيما منها الثنائي الشيعي لا تزال تدرس هذا الخيار اضافة الى خيارات اخرى.
وفي معلومات من أكثر من مقر، ان قيام حكومة من غير النواب وبرئاسة الحريري هي الأكثر ترجيحاً. وفصل النيابة عن الوزارة لا ينطبق على موقع رئيس الوزراء لأن الخصوصية اللبنانية تقضي بأن يرأس الحكومة الأكثر تمثيلاً في طائفته.
أما الخيار الآخر، بتشكيل حكومة ترأسها شخصية غير الحريري، فهو، اذا تعذر على الاخير السير بواحدة من الصيغتين الحكوميتين محور المشاورات الجارية: حكومة التكنوقراط أو الحكومة المختلطة من تكنوقراط وسياسيين من غير النواب.
وأما خيار حكومة من غير الحريري فيعني انها ستكون حكومة اللون السياسي الواحد، وإمكان تحولها الى حكومة مواجهة مع الخارج وربما نصف قوى الداخل.
وهذا الخيار المرّ ليس وارداً حتى اللحظة. ولم يوح به كلام رئيس الجمهورية امام وفد الرابطة المارونية، الذي دعا أمامه الى حكومة حيادية من ذوي الاختصاص، وذلك قبل أن تزور بنشعي ومعراب.
وأكد رئيس الجمهورية أمام الوفد أنه “ستكون للبنان حكومة نظيفة”، مانحاً الحراك الشعبي غطاءه بأن اعتبر أنه “فتح الباب أمام الإصلاح الكبير، واذا ما برزت عوائق أمامنا، فالشعب يعود من جديد الى الساحات”.
وبدا لافتاً ما أعلنه نائب رئيس مجلس النواب ايلي الفرزلي بعد لقائه الرئيس الحريري في “بيت الوسط” أمس من أن “الرئيس الحريري هو أحد أعمدة وحدة الوطن وأحد أعمدة المحافظة على العيش المشترك، وأعمدة منطق الممثل الحقيقي للمكوّن الذي ينتسب اليه، وهو أحد مقومات المناعة للبلد في وجه التحديات الخارجية. لذلك اعتقد أنه لا خلاف في العمق اليوم حول ما إذا كان الرئيس الحريري هو الذي يجب أن يكلّف ام لا، لأنه صمام أمان للمسألة المالية والنقدية والاقتصادية والاجتماعية، الى جانب أشقائه في السلطة ممثلي المكونات، فخامة رئيس الجمهورية ودولة رئيس مجلس النواب. المسألة ليست مسألة ترف في التسمية، بل القضية هي مصلحة وطن ويجب تحويل ما جرى من استقالة وما سبقها، شحنة إيجابية لإعادة إنتاج منطق الدولة بصورة سليمة تأخذ في الاعتبار كل المشاكل التي كانت سبب الازمة اقتصادياً واجتماعياً وسياسياً”.
“بيت الوسط”
وقالت أوساط قريبة من “بيت الوسط” إن الرئيس الحريري يترقب ردود الفعل ويراهن على وعي اللبنانيين وإدراك القيادات لخطورة اللحظة، لافتة الى أن الحريري “يتحرك في ضوء قناعاته والتزاماته تجاه المصلحة الوطنية وموجبات حماية الاقتصاد الوطني من الانهيار”. ورأت أن “استقالة الحريري شكّلت خطوة في إتجاه اعادة الاعتبار للنقاش السياسي على حساب الدعوات التي تنادي بحلول أمنية وتكليف الجيش فتح الطرق بالقوة”، مضيفة ان”الحريري لم يرمِ الكرة في ملعب أحد لكنه سحب كرة النار من الشارع”. ولاحظت أن “لا جدوى من المراوحة في تحليل الاستقالة وأسبابها والمحاولات الرخيصة التي تضعها في خانة المؤامرة”. كما نفت أن يكون الحريري وضع شروطاً على اعادة تكليفه.
وزارت “بيت الوسط” وفود متضامنة مع الرئيس الحريري. ووزع مقطع من شريط فيديو بدا فيه الاخير يتحدث أمام هذه الوفود قائلاً: “استفادوا مني وسرقوا مني وبالآخر عم يزايدوا علي…”.
المصارف
وفي ما يتعلق بفتح المصارف أبوابها غداً أمام الزبائن، أكدت مصادر مصرفية لـ”النهار” أن اجتماع جمعية مصارف لبنان مع حاكم مصرف لبنان رياض سلامة أمس وضع خريطة طريق متينة تسهل عبور القطاع المصرفي هذه الازمة بسلاسة من دون تعرضه لاهتزازات في الملاءة من جهة ومن دون أي تقصير تجاه العملاء من جهة أخرى. واتفق أركان القطاع على حماية حرية الايداع والتحويل مع التشديد على جهوزية المصارف التامة لتنظيم عملها. وأشارت الى إن سعر صرف الدولار سيبقى على حاله.
بين ايران وأميركا!
الى ذلك، وفي اطار ردود الفعل الخارجية على التطورات في لبنان، برز هجوم حاد شنّه أمس المرشد الأعلى للجمهورية الاسلامية الايرانية علي خامنئي، على المتظاهرين في لبنان والعراق الذين دعاهم إلى “اتباع الأطر والهيكليات القانونية في بلادهم لتحقيق مطالبهم”، محذراً من “مخطط لسلب الأمن في بعض بلدان المنطقة.” وقال في تغريدات عبر موقع “تويتر”، إن “أكبر ضربة يمكن أن يوجهها الأعداء إلى أي بلد هي أن يسلبوه الأمن، الأمر الذي بدأوه في بعض بلدان المنطقة”. وأضاف: “أوصي الحريصين على العراق ولبنان أن يعالجوا أعمال الشغب وانعدام الأمن الذي تسببه في بلادهم أميركا والكيان الصهيوني وبعض الدول الغربية بأموال بعض الدول الرجعية… للناس مطالب أيضا وهي محقة، لكن عليهم أن يعلموا أن مطالبهم إنما تتحقق حصراً ضمن الأطر والهيكليات القانونية لبلدهم. متى إنهارت الهيكلية القانونيّة يستحيل القيام بأي عمل”.
وفي المقابل، حثّ وزير الخارجية الأميركي مايك بومبيو الزعماء السياسيين في لبنان “على المساعدة في تشكيل حكومة جديدة تلبّي حاجات شعبها”، بعدما استقال رئيس الوزراء سعد الحريري. وقال بومبيو في بيان: “التظاهرات السلمية ومظاهر التعبير عن الوحدة الوطنية في الايام الـ13 الاخيرة بعثت برسالة واضحة. الشعب اللبناني يريد حكومة تتسم بالكفاءة والفاعلية وإصلاحاً اقتصادياً ونهاية للفساد المستشري”.