كتبت صحيفة “الجمهورية” تقول: بات من المسلّم به أن إنهاء الأزمة الراهنة، أو بمعنى أدق بدء سلوك هذه الازمة الطريق الى الحل، يحتاج الى ثمن، ولكن ليس أيّ ثمن. والسؤال البديهي الذي يطرح نفسه في هذا الاطار: ما هو هذا الثمن؟ من سيدفعه؟ مِن حساب مَن سيُدفع؟ وعلى حساب من سيُدفع؟ ومِن حساب مَن سيُسحَب؟ إلّا انّ السؤال الأكبر من كل تلك الاسئلة: ما هو الثمن الذي سيدفعه البلد، اذا ما استمر هذا الانحدار الحالي سياسياً واقتصادياً ومالياً وفي الشارع؟ على أنّ كل هذه الحركة السياسية والشعبية تتواكب مع وقائع متدحرجة على كل المستويات، تقترن بتحذيرات مالية على شاكِلة الصورة القاتمة التي رسمها حاكم مصرف لبنان رياض سلامة حول الوضع اللبناني، وأكد فيها الحاجة الى حل فوري وخلال أيام، تجنّباً للأسوأ. وهو كلام أثار ذعراً، سواء على المستوى الشعبي، وكذلك على المستوى السياسي، حيث أكد مرجع كبير لـ”الجمهورية” انّ “صورة لبنان تقترب من السواد الحالِك. ولذلك، ومهما كلّف الأمر، صار من الواجب أن يتبلور مخرج سياسي هذا الأسبوع، والّا فإننا سنندم جميعاً”.
الناس، وعلى رغم الطقس الماطر، ماضية في تحركها ضد السلطة، فغَصّت الساحات بجموع المحتجّين، فيما استمر قطع الطرقات الرئيسية في العديد من المناطق، بالتوازي مع تأكيد المحتجّين الاستمرار في قطع الطرقات لإرغام السلطة على الاستجابة لمطالبهم التي ما زالت تتجاهلها منذ 12 يوماً، في مقابل دعوات الى فتح الطرقات تحت عنوان: إذا كان التعبير عن الرأي حقاً مُصاناً، فحرية تنقّل المواطنين حق مُصان أيضاً.
معايير متناقضة
ومع إصرار المحتجين على البقاء في الشارع، علمت “الجمهورية” أنه في الوقت الذي أكد رئيس الجمهورية أولوية معالجة الوضع الأمني وفتح الطرق اللذين يجب أن يتقدّما على المسارات الأخرى، فإنّ أوساط “بيت الوسط” أعطت الأولوية للمسار السياسي. فالحراك في الشارع ما زال سلمياً، ولا يجوز استدراج الموجودين في الشارع الى أي مواجهة أمنية أو ما يؤدي الى توتير الوضع، فالحراك كان سلميّاً وسيبقى كذلك، ومن المهم التعاطي معه على هذه الأسس.
“تطنيش”!
على الأرض، تكفي جولة على ما عَبّر ويعبّر عنه الناس من مطالب وأوجاع في انتفاضتهم المستمرة منذ 12 يوماً ضد السلطة الحاكمة، وعلى واقع هذه السلطة وكيفية مقاربتها لهذه الانتفاضة الشعبية المشتعلة ضدها في الشارع، للوقوف على مُسلّمتين لدى المحتجين:
– الأولى، انّ الترقيع التقليدي الذي كان مُتّبعاً في مقاربة أزمات ما قبل 17 تشرين الاول 2019، لم يعد اللغة التي يفهمها الناس أو التي يريدون أن يسمعوها بعد، في ذروة انتفاضة صَدّعت السلطة وأصابتها بأوجاع سياسية ومعنوية في كافة مفاصلها.
– الثانية، انّ محاولة البحث عن “كبش فداء”، تُنسَف من خلاله انتفاضة الشارع، هي في نظر الناس محاولة خبيثة، تَنمّ عن أنّ السلطة مُصرّة على المنحى الاحتيالي الذي تسير عليه، بل هي في أحسن الاحوال، محاولة عبثية تواجه فيها الناس بلعبة مكشوفة وخاسرة سلفاً، لن يكون من شأنها إلّا إشعال الشارع أكثر فأكثر في وجه السلطة.
ما هو الثمن؟
في المقابل، فإنّ السلطة التي تتجاهل منذ 12 يوماً الاستجابة لأي مطلب من مطالب المحتجين، فإنّ وضعها، كما دَلّت وقائع الأيام الاخيرة بما شَهدته من مشاورات واتصالات على مستويات سياسية ورئاسية مختلفة، هو في حال من الإرباك الشديد، وهذا ما تعكسه الاقتراحات التي طرحت حول “الثمن” الذي يتوجّب دفعه إرضاء لجموع المحتشدين في الشارع، وبالتالي إنهاء الأزمة.
وبحسب المعلومات، فإنّ أيّاً من هذه الاقتراحات لم يجد له مساحة قبول لدى القوى السياسية من شأنها أن تضعه موضع التنفيذ، بدءاً من طرح تغيير الحكومة، وهو كما باتَ معلوماً، الطرح الذي تصدّر مطالب المحتجين، إلّا انّ مشكلته، وكما عكست الاتصالات على الخطوط السياسية والرئاسية، أنه مرفوض لدى مكوّنات سياسية أساسية لأنه قد يؤدي الى وقوع البلد في الفراغ المحظور، وبالتالي صُرِف النظر عنه.
ولخّصت مصادر وزارية عاملة على خط الاتصالات بين المقرّات السياسية والرئاسية، الصورة السياسية والحكومية، وقالت لـ”الجمهورية”: إنّ تغيير الحكومة لا يصطدم فقط بالتحذير من مجهول ينتظر لبنان فيما لو استقالت الحكومة الحالية، بل يصطدم أيضاً بعدم القدرة السياسية على الاتفاق على “نَوع” الحكومة التي ستتشكّل. فإذا كان بقاء الحكومة يشكل مشكلة للشارع المُطالِب بتغييرها، فإنّ بدائلها المطروحة يؤدي كلّ منها الى مشكلة، مثل الطرح القائل بحكومة تكنوقراط صافية بلا سياسيين. فمثل هذه الحكومة لا تستطيع أن تواكب واقعاً معقداً معيشياً واقتصادياً، ومنقسماً بشكل حاد سياسياً.
وكشفت المصادر انّ من ضمن الافكار والطروحات التي جرت مناقشتها في الايام الاخيرة، إنما بصورة غير رسمية، فكرة تشكيل حكومة سياسية مطعّمة باختصاصيين، أو تشكيل حكومة تكنوقراط مطعّمة بسياسيين على مستوى وزراء دولة بلا حقائب، وأكدت انّ هذه الفكرة لم تجد من يتبنّاها.
وخلاصة الأمر، كما أكدت المصادر لـ”الجمهورية”، أنّ تغيير الحكومة كان مجرّد فكرة تمّت مناقشتها سريعاً ولم تعد مطروحة، وقد ساهم في إحباطها دخول بعض القوى السياسية على خط تغييرها، والمناداة بتبديلها بحكومة تكنوقراط أو اختصاصيين”.
إختلاف في التفسير
على أنّ اللافت للانتباه، وفق ما أشارت اليه تلك الاتصالات السياسية، هو اختلاف التفسير بين مكوّنات السلطة للطرح الصادر عن رئيس الجمهورية العماد ميشال عون، والذي قال فيه إنه “صار من الضروري إعادة النظر في الواقع الحكومي الحالي حتى تتمكّن السلطة التنفيذية من مُتابعة مسؤوليّاتها”، وأيّده فيه رئيس الحكومة سعد الحريري.
فبعض السلطة قرأ فيه دعوة الى تغيير الحكومة، وهو أمر نَفته دوائر بعبدا، مؤكدة أنّ رئيس الجمهورية لم يأت على ذِكر هذا الأمر لا من قريب ولا من بعيد، فضلاً عن أنه محل اعتراض شديد من قبل رئيس المجلس النيابي نبيه بري، الذي يؤكد انّ تغيير الحكومة لا يحل الأزمة بل يعقّدها أكثر، الى حَدّ تنعدم معه إمكانية تشكيل حكومة في المدى المنظور، وهذا يفتح البلد على مصير مجهول. لذلك، المطلوب بإلحاح، في رأي بري، استمرار الحكومة، والشروع فوراً بخطوات إصلاحية ملموسة.
وتضيف المعلومات أنّ تَبايناً شديداً حصل بين مستويات السلطة حول فكرة تعديل الحكومة، وبحسب مصادر موثوقة فإنّ رئيس الجمهورية مع فكرة التعديل تِبعاً لِما أعلنه حول ضرورة إعادة النظر في الواقع الحكومي، الّا أنّ الفكرة التي تم تداولها، والتي تنطوي على إخراج بعض الاسماء التي توصَف بالمُستفزّة، هي محل رفض قاطع لها من قبل رئيس الجمهورية، وحتى رفض مجرّد سماعها أو البحث فيها، كونها تتناول بالدرجة الاولى وزير الخارجية جبران باسيل، وعلى نحو يصوّره وكأنه هو المسؤول عن الأزمة، فيما أنّ هذه الازمة تَتبدّى واضحة في أماكن أخرى، علماً أنّ هذه الفكرة تنطوي على إساءتين جارحتين: الأولى إساءة ظاهرة بشكل مباشر للوزير باسيل، والثانية إساءة مباشرة للعهد، ربطاً بالرمزية التي يمثّلها باسيل بالنسبة الى رئيس الجمهورية.
وإذ تؤكد المصادر أنّ سائر المراجع السياسية في الدولة هي في صورة الرفض الرئاسي لفكرة التعديل هذه على النحو المطروح، لفتت الى أنّ رئيس الحكومة هو مع تغييرها إذا تم الاتفاق على ذلك، ومع تعديلها اذا قُيّضَ له ذلك أيضاً، إلّا أنّ هذا التعديل هو محل رفض أيضاً لدى رئيس المجلس النيابي، لأنه يعتبر انّه ليس هو الحل ولا يؤدي الى إنهاء الازمة، فضلاً عن أنه طرح مرفوض أصلاً من قبل المعتصمين.
هدف السلطة: التفعيل
الى ذلك، ومع سقوط طرح تغيير الحكومة، وكذلك التعديل أو التبديل، يبدو أنّ قرار السلطة في موازاة ما يجري في الشارع هو التفعيل، بمعنى المقاربة الفاعلة والسريعة لمجموعة من البنود التي تعتبرها إصلاحية ومُلحّة، ووضعها موضع التنفيذ السريع، وبعضها خلال فترة قصيرة جداً، على شاكِلة قانون استعادة الاموال المنهوبة والتهرّب الضريبي، وصولاً الى قانون العفو العام الذي تراهن السلطة على أن يأتي طرحه في هذا الوقت ومن ثم إقراره، منفِّساً لجانب كبير من الشارع المُحتقِن ضدها.
موازنة… معطلة
الّا انّ كل ذلك متوقّف على عبوره الهيئة العامة لمجلس النواب، بالتوازي مع إقرار موازنة العام 2020، علماً انّ مشروع الموازنة معطّل حالياً، على رغم وصوله الى المجلس النيابي، وذلك لعدم وجود لجنة مال وموازنة تدرسه، خصوصاً أنّ ولاية اللجنة السابقة قد انتهت منذ أكثر من أسبوع، أي في مُستهلّ العقد العادي الثاني للمجلس النيابي الذي بدأ اعتباراً من أول ثلاثاء بعد 15 تشرين الاول الجاري، وهو الموعد الدستوري الذي يوجِب على المجلس النيابي مع افتتاح هذا العقد أن يُعيد انتخاب لجانه الدائمة مع أعضاء هيئة مكتب المجلس، أي انتخاب أمينَي السر والمفوضين الثلاثة.
وهو أمر لم يتم جرّاء التطورات الاخيرة والاعتصامات التي شهدها وسط بيروت والطرقات المؤدية الى مبنى مجلس النواب في ساحة النجمة، والتي حالت دون وصول النواب الى المجلس، برغم الدعوتين اللتين وجّههما رئيس المجلس لعقد جلسة الانتخاب، وتم تأجيلهما ربطاً بتلك التطورات، علماً أنّ هذه التطورات قد تفرض تأجيلاً ثالثاً لهذه الجلسة.
وتِبعاً لذلك، فإنّ كل تأخير إضافي في انتخاب اللجان النيابية، ومن بينها لجنة المال والموازنة، سيقابله تأخير في دراسة مشروع الموازنة وإنجازه في وقت سريع، ربطاً بالوعود التي أطلقت حيال ذلك. كما أنّ هذا التأخير لا يرتَدّ فقط شللاً في عمل اللجان النيابية، بل هو يشلّ أيضاً هيئة مكتب المجلس النيابي، المحصورة عضويتها حالياً على الرئيس نبيه بري ونائب رئيس المجلس إيلي الفرزلي، وهو أمر يُعيق عَقد جلسة تشريعية، لأنه يجب أن يسبقه اجتماع هيئة مكتب المجلس لتحديد جدول أعمالها.
“عاصفة” سلامة
من جهة ثانية، أثار الكلام الذي نسبته شبكة CNN الى حاكم مصرف لبنان رياض سلامة أمس، عن انّ “الانهيار مسألة أيام”، بلبلة ورعباً. ومع انّ سلامة عاد وأوضَح كلامه في تصريح لوكالة “رويترز”، إلّا انّ القلق ظل مسيطراً.
وأكد سلامة لـ”رويترز” أنّ “لبنان يحتاج إلى حل خلال أيام لاستعادة الثقة وتفادي الانهيار في المستقبل”. وقال: “لا أقول إننا في صدد انهيار خلال أيام، ما قلته هو أننا نحتاج حلاً فوريّاً خلال أيام”.
وتابع: “عنوان شبكة CNN: “لبنان على بعد أيام من الانهيار الاقتصادي”، لا يتماشى مع ما قلته في مقابلة معهم”، مؤكداً “اننا سنحافظ على ربط العملة المحلية بالدولار، ولدينا الوسائل لذلك”.
وجَزم سلامة بأنّ “المصارف ستفتح أبوابها مجدداً بمجرّد أن يهدأ الوضع، ولم نطالبها بالإغلاق”، مشيراً إلى أنه “عندما تفتح المصارف أبوابها لن تكون هناك قيود على حركة الأموال ولا خفض لقيمة الديون”.
وكانت شبكة CNN قد نقلت عن سلامة قوله “انّ لبنان على وشك الانهيار الاقتصادي ما لم يتم إيجاد حل فوري لإنهاء الاحتجاجات التي أصابت البلاد بالشلل، وانّ الانهيار مسألة أيام، لأنّ التكلفة باهظة على البلاد”.
جمعية المصارف
الى ذلك، يعقد مجلس إدارة جمعية المصارف اجتماعاً اليوم للبحث في الوضع النقدي، والإجراءات التي يمكن اللجوء إليها في حال انتهى الحراك الحالي الى حلّ سياسي أو أمني، فلكلا الحالتين شروطها وظروفها.
وقالت مصادر مصرفية لـ”الجمهورية”: لا بد للمصارف من أن تكون جاهزة للحالتين، وبالتعاون مع مصرف لبنان على خلفية حماية أموال المودعين.
أزمات محروقات وخبز
على صعيد الداخل، أطلّت أمس أزمتان معيشيّتان. تتعلّق الاولى بنفاد المحروقات في بعض المحطات واعتماد أخرى التقنين بسبب عدم فتح اعتمادات لاستيراد المحروقات، وتتعلّق الثانية ببدء مخزون القمح في النفاد للسبب نفسه.
وفي التقديرات التي تحدث أصحاب العلاقة عنها الى “الجمهورية”، فإنّ مادة المحروقات المتوافرة لا تكفي لأكثر من أسبوعين، في حين أنّ احتياطي الطحين يكفي لحوالى 18 يوماً.
ويقول مسؤولون في قطاعَي المحروقات والقمح انّ تعميم فتح اعتمادات لاستيراد المادتين بالسعر الرسمي للدولار لم يبدأ تنفيذه حتى الآن، وبالتالي فإنه يتعذّر استيراد المادتين.