كتبت صحيفة “النهار” تقول: اتخذت التطورات المتسارعة منذ اشتعال “انتفاضة الغضب” أبعاداً ودلالات فاصلة في يومها الخامس وان لم تكن مفاجئة لكثيرين. ذلك ان المد التصاعدي والتصعيدي للتحركات الاحتجاجية في مختلف المناطق اللبنانية لم يتراجع ولم ينحسر أمام اول رد عملي للسلطة على هذه الانتفاضة والذي تمثل في تبني مجلس الوزراء الخطة الاصلاحية “الانقاذية” التي وضعها رئيس الوزراء سعد الحريري وأجرى في شأنها مشاورات سياسية واسعة قبل أن يتبناها مجلس الوزراء أمس.
ولعل العامل الاهم الذي طرأ على مشهد “لبنان الانتفاضة” الذي عاد يستقطب اهتمام الاعلام العالمي للمرة الاولى منذ مدة طويلة، برز في القرارات التي اتخذها مجلس الوزراء والتي تعتبر الاولى من نوعها لجهة الخطوات الاقتصادية والمالية التي تضمنتها الخطة الاصلاحية مقترنة بانجاز موازنة 2020 الامر الذي كانت الدول المنخرطة في مؤتمر “سيدر” ووكالات التصنيف الدولية عجزت سابقاً عن حمل السلطة ومكوناتها على تحقيقه وعلى التزام السقوف الاصلاحية الصارمة التي تطلبها عملية تأمين الدعم الدولي للبنان، فاذا بخمسة أيام فقط من الحراك الاحتجاجي الواسع الذي عم لبنان يدفع الحكومة الى تبني احدى أكثر الخطط المتقدمة نسبياً ونوعياً على الصعيد الاصلاحي قياساً بالسياسات الحكومية السابقة المتعاقبة. ومع ذلك لم يبدل هذا التطور شيئاً في مسار التحركات الاحتجاجية التي تواصلت بزخم تصاعدي في رد مباشر على الخطوة الحكومية وتمسكاً بالمطلب المركزي للمحتجين والمتمثلة في استقالة الحكومة الحالية وتشكيل حكومة مستقلة تحصر مهمتها باجراء انتخابات نيابية مبكرة.
وثمة اعتقاداً أن مسار الاحتجاجات لن يتوقف ما لم يبدأ حوار مباشر أو غير مباشر بين ممثلين عن الحراك والسلطة، واذا كان مبدأ الحوار سيسقط بدوره فان المرحلة التالية للتحرك الشعبي ستكون محفوفة بالغموض الكبير فيما لا يخفى ان السلطة تبدو مربكة للغاية في التعامل مع يوميات الاحتجاجات التي قلبت المقاييس السياسية رأسا على عقب. وتشير الاوساط المعنية بمواكبة هذه التطورات الى ان الانتفاضة باتت تتطلب برمجة وتأطيراً وتحديداً لاهدافها في اسرع وقت وان رفضها الخطة الاصلاحية التي اعلنتها الحكومة لا يعني اسقاط الحاجة الى قناة حوارية مباشرة أو غير مباشرة بين الفريقين، خصوصاً في ظل الحرص اللافت الذي اظهره الرئيس الحريري على تبني الكثير من توجهات واهداف هذه الحركة بلوغاً الى اعلانه بجرأة تبنيه مطلب الانتخابات النيابية المبكرة وسواه من اهداف المحتجين.
وحذرت الاوساط من ظواهر خطيرة بدأت تلوح في افق التحرك وردود الفعل عليه من خلال ما يمكن ان يكون تحريكاً لشارع آخر في مواجهة الحراك الاحتجاجي وهو ما برز مساء أمس في مسيرات لدراجات نارية رفع سائقوها اعلاماً لحركة “أمل” و”حزب الله” جابت أحياء في الضاحية الجنوبية ثم توجهت نحو ساحة الشهداء في بيروت حيث قامت بجولات عدة ثم عادت ادراجها بعدما منعها الجيش من الاحتكاك بالمعتصمين وتولى ملاحقة افراد منهم وصادر دراجاتهم وردعهم بحزم. واثارت هذه البادرة مخاوف من حصول احتكاكات تهدف الى تحجيم التحرك الاحتجاجي وضربه تحت بذريعة الخوف من التسبب باضطرابات امنية. وواكبت هذه التطورات معلومات عن تعرض عناصر من الثنائي الشيعي لافراد مشاركين في الاحتجاجات والاعتداء عليهم في بعض البلدات الجنوبية.
واتصل الرئيس الحريري بقائد الجيش العماد جوزف عون وعرض معه التطورات الأمنية. وشدد خلال الاتصال على وجوب حماية المتظاهرين وعدم السماح بالمساس بأي منهم، مع تأكيد وجوب فتح الطرق إفساحاً في المجال لحرية تنقل المواطنين في كل المناطق وتأمين الخدمات الصحية والمعيشية.
وأفيد ان قيادة الجيش ليست في وارد التحرك وفتح الطرق بالقوة، ونقل عن مصدر عسكري قوله إنه “اذا طلبت الناس نجدتنا ومساعدتنا فسنلبي نداءها فقط في هذه الحالة نساعدها بفتح الطريق””
كذلك أن مصدر في قوى الأمن الداخلي “اننا لن نفتح الطرق بالقوّة وهذا الأمر ليس وارداً”.
الاصلاحات والردود
وعلى وقع الشارع الغاضب، انعقد مجلس الوزراء واتخذ بعد نقاش طويل سلسلة قرارات تتضمن إجراءات إصلاحية جذرية للنهوض بالاقتصاد وتحفيز النمو، كما أقر مشروع موازنة 2020 بنسبة عجز تبلغ 0،6 في المئة، من دون فرض أي ضريبة، وأحيل على مجلس النواب.
ومن أبرز المقررات التي اتخذها المجلس في جلسته في قصر بعبدا برئاسة رئيس الجمهورية ميشال عون وفي غياب وزراء “القوات اللبنانية” الذين قدموا استقالاتهم: مساهمة القطاع المصرفي ومصرف لبنان في خفض العجز بقيمة 5100 مليار ليرة، زيادة الضريبة على أرباح المصارف، خفض رواتب الرؤساء والوزراء والنواب الحاليين والسابقين بنسبة 50%، وخفض موازنات مجلس الانماء والاعمار وصندوق المهجرين ومجلس الجنوب بنسبة 70%، إعداد مشروع استعادة الاموال المنهوبة وقانون إنشاء الهيئة الوطنية لمحاربة الفساد قبل آخر السنة الجارية، إقرار مشاريع المرحلة الاولى من مؤتمر “سيدر” وقيمتها 11 مليار دولار خلال ثلاثة اسابيع.
وأشاد الحريري بعد الجلسة بالتحرك الشعبي الذي عزا اليه التوافق على هذه القرارات في مجلس الوزراء، مشيراً الى أنها “ليست للمقايضة أو للطلب من الناس مغادرة الشارع، فهم من يحدد ذلك”. وأكد وقوفه شخصياً مع مطلب إجراء انتخابات نيابية مبكرة. ولاحظ ان “اللبنانيين كسروا كل الحواجز وهزوا كل الاحزاب والتيارات والقيادات، والاهم انهم كسروا حاجز الولاء الطائفي الاعمى”، آملاً “أن يشكل هذا الامر بداية نهاية النظام الطائفي في لبنان”. ثم قال: “يا للاسف، مثلما قلت منذ ثلاثة أيام، لم تتحقق أي من الخطوات المطلوبة. والنتيجة كانت ان الشباب والشابات، بعدما صبروا كثيرا وأعطونا فرصا كثيرة لنحقق شيئاً، وصلوا الى مكان من اليأس انفجروا بنتيجته، ونزلوا الى الشارع ليعبروا عن غضبهم ويطالبوا، كل على طريقته. المطالب محقة ومتنوعة، لكن المطلب الواضح الذي أجمعوا عليه هو مطالبتهم جميعا بكرامتهم، وباحترامهم، وباحترام صوتهم. أمام هذا الواقع، أعطيت شركائي في الحكومة مهلة 72 ساعة لاتخاذ الحد الادنى من الإجراءات الضرورية والمطلوبة منذ سنتين”.
وتحدث عن “تغيير كامل في عقلية التعامل مع الامور في هذه الموازنة، فالإنفاق في الحكومة والمؤسسات يكاد يوازي الصفر، وهو ما من شأنه إغلاق الباب على أي هدر وفساد، لان الحكومة لن تصرف أي قرش، وسيكون الانفاق بكامله من خلال الاستثمار الخارجي، إذ لن يقبل أي مستثمر خارجي بأي هدر أو فساد، واعتمادنا بأكمله سيكون على هذا الاستثمار، وهو الضامن للنمو”
وللمتظاهرين قال: “ما قمتم به كسر كل الحواجز، وهزّ كل الاحزاب والتيارات والقيادات، واهم حاجز تم كسره هو حاجز الولاء الطائفي الاعمى. لقد أعدتم الهوية الوطنية اللبنانية الى مكانها الصحيح، فوق أي هوية طائفية أو مذهبية، وهذا اكبر مكسب وطني، على أمل ان يكون هذا الامر بداية لنهاية النظام الطائفي في لبنان، وبداية حقيقية للبنان الجديد”.
ووصف رئيس مجلس النواب نبيه بري الاصلاحات التي أقرت بانها جيدة وصرح لـ”النهار” بأن “المطلوب تطبيقها في أسرع وقت وكان من الافضل ان تقترن بجملة من الاصلاحات السياسية مثل العمل على اطلاق عجلة الهيئة الوطنية لالغاء الطائفية السياسية والتوجه نحو الدولة المدنية التي تبقى خشبة الخلاص للبنان”.
ولم يتفاعل الشارع كثيراً مع إقرار الورقة الاصلاحية اذ ان اصداء الساحات ولا سيما منها ساحتا الشهداء ورياض الصلح وساحة النور في طرابلس كانت رافضة لمقايضة تحركاتهم بورقة إصلاحات كان يمكن الحكومة الحالية او تلك التي سبقتها ان تقرها منذ سنوات طويلة.
ويشار الى انه في ساعات الصباح الاولى، كان الحضور خجولاً في وسط بيروت، ومع تقدم ساعات النهار، بدأت الحشود بالتوافد الى ساحة الشهداء، وكذلك الى رياض الصلح، ورويداً رويداً استعاد الشارع نبضه وامتلأت الساحات مساء وسط إصرار على مطلب استقالة الحكومة ورحيل الطبقة السياسية واستعادة الاموال المنهوبة، وظلت الدعوات تطلق للمشاركة الكثيفة في التحركات الغاضبة.
وأفادت مجموعات أساسية من المحتجين أن مطالبهم الراهنة تتلخص بحمايتهم أولا وأخيراً من أي مخطط سلطوي حزبي للاعتداء عليهم من أجل فرط تحركهم الذي حافظ على زخمه بعد كلمة الحريري، وبعدم بث الذعر في صفوف الناس والتركيز على ان المشكلة الاساسية مع السلطة هي مشكلة سياسية وليست اقتصادية.
وخريطة طريق تبدأ بتشكيل حكومة مصغرة من التكنوقراط تنتج قانوناً انتخابياً يؤمن مرحلة انتقالية.
“تسلم يا عسكر لبنان”
لم يسمح الجيش اللبناني لعدد من المشاغبين رفعوا اعلام “أمل” و”حزب الله” مساء أمس بالاعتداء على المتظاهرين في ساحة الشهداء، وعمد افراد الجيش الى توقيفهم مع دراجاتهم النارية وابعادهم عن الساحتين، مؤكدا موقف القيادة بحماية المعتصمين والمتظاهرين ما لم يخلّوا بالامن.
وفيما نفى كل من “أمل” و”حزب الله” علاقته بالمشاغبين، لاقت خطوة الجيش ارتياحاً عاماً. ورفعت اعلام للجيش في الساحة مع الاعلام اللبنانية.