كتبت صحيفة “الجمهورية” تقول: لم يكن ينقص البلاد إلاّ إختلاط القضائي بالدستوري امس، في غمرة البحث عن حلول سياسية – قضائية لحادثة قبرشمون التي لم تنتهِ مضاعفاتها فصولاً بعد. وكشف هذا الاختلاط مجدداً الارباك، وربما الضياع، الذي تعيشه السلطة وفشلها في مواجهة تحدّيات المرحلة واستحقاقاتها بوجهها الداخلي والخارجي. ولاحظ المراقبون انّ رسالة رئيس الجمهورية العماد ميشال عون الى رئيس مجلس النواب نبيه بري والنواب، الداعية الى تفسير المادة 95 من الدستور معطوفاً على الفقرة “ي” من مقدمة هذا الدستور، جاءت لترفع النقاش الخلافي الى مستوى جديد، وتطرح نقاشاً دستورياً في الصميم حول “اتفاق الطائف” ما قبله وما بعده، لأنّ هذه المادة موجودة منذ ايام الانتداب الفرنسي وتمّ تعديلها بالقانون الدستوري الصادر في 9/11/1943 ثم بالقانون الدستوري الصادر في 21/9/1990. كذلك جاءت رسالة عون الى مجلس النواب لتشخّص الأزمة السياسية التي تعيشها البلاد حالياً وتفتتحها على مدى اوسع وأبعد، ولتؤكّد انّ منظومة التعايش بين الطوائف ينتابها خلل كبير، فشل “اتفاق الطائف” في تنظيمه وادارته، علماً انّ النقطة الابرز في المناخ المحيط بهذه الرسالة الرئاسية هي انّ رئيس الجمهورية من موقعه الدستوري والسياسي يفتح بها البلاد على نقاش يتصل بأصل الاشياء وليس بتفاصيلها، الامر الذي قد يقود الى تعديل “اتفاق الطائف” او الى “مؤتمر تأسيسي” وربما الى صيغ أُخرى، حسب هؤلاء المراقبين.
دعا عون، في رسالة وجّهها الى بري، الى “مناقشة مجلس النواب، وفقاً للأصول، المادة 95 من الدستور، ولاسيما منها الفقرة “ب” الواردة بعنوان “وفي المرحلة الانتقالية”، والمتعلقة بالتمثيل الطائفي في الوظائف العامة، معطوفة على الفقرة “ي” من مقدمة الدستور، وفقاً لقواعد التفسير الدستوري، وذلك حفاظاً على ميثاقنا ووفاقنا الوطني وعيشنا المشترك، وهي مرتكزات كيانية لوجود لبنان وتسمو فوق كل اعتبار، مع حفظ حقنا وواجبنا الدستوريين من موقعنا ودورنا وقسمنا، باتخاذ التدبير الذي نراه متوافقاً والدستور في المسائل المطروحة في الرسالة”.
وجاءت رسالة عون هذه في ضوء اللغط الذي رافق إقرار المادة 80 من موازنة 2019، ولاسيما الفقرة الاخيرة منها، المتعلقة بحفظ حق الناجحين في مباريات الخدمة المدنية في التوظيف، خلافا للنص القانوني بمنع التوظيف الى تشرين الاول.
واستبعدت مصادر نيابية ان يبادر بري الى اي رد او خطوة نيابية راهناً على رسالة عون، وقالت انّ هذا الامر سيُترك الى بداية العقد التشريعي العادي الثاني للمجلس الذي يبدأ اول ثلثاء بعد 15 تشرين الاول المقبل.
شدّ العصب
ووضعت اوساط متابعة ومعارضة الاستفاقة على المادة 95 من الدستور “في إطار شدّ العصب الطائفي نفسه الذي يعمل عليه الوزير جبران باسيل بنحو مركّز، في محاولة لانتزاع مشروعية يعتقد أنّ فرز اللبنانيين طائفياً يشكّل المدخل الوحيد لانتزاعها”.
وقالت هذه المصادر لـ”الجمهورية”: “انّ معظم المواد الدستورية تحتمل التأويل والاجتهاد، وبالتالي هل المطلوب فتح النقاش في الدستور واستجرار خلافات وانقسامات نعلم أين تبدأ ولا نعلم أين تنتهي؟ وأين المصلحة الوطنية العليا في فتح النقاش في مادة دستورية انقسامية وفي لحظة لا تجتمع فيها الحكومة والوضع الاقتصادي على حافة الهاوية؟ وهل الأولوية اليوم لنقاشات تثير انقسامات أم لتوحيد الموقف اللبناني وإنهاء التعطيل وإعادة الوضع الاقتصادي الى السكة الصحيحة؟ وهل يُعقل بعد ثلاثة عقود على إقرار “اتفاق الطائف” ان يستفيق أحد الأطراف، الذي كان حتى الأمس القريب ضد هذا الاتفاق، ليثير إشكالية من خارج سياق الأحداث الطبيعية؟”. وأضافت: لماذا تصوير اللبنانيين وكأنهم منقسمون الى مسيحيين ومسلمين؟ ومن تخدم هذه الصورة الانقسامية في هذه اللحظة؟ وما علاقة هذا التوتير الطائفي بـ”صفقة القرن” وما يُحكى عن مشاريع تفتيتية للمنطقة؟ وهل يمكن عزل هذا التوتير الطائفي المتعمد عن سياق الأحداث الخطيرة في المنطقة؟ وأليس من الأجدى رصّ الصفوف في هذه المرحلة لإسقاط مشاريع التقسيم وصفقات القرن الخطيرة؟”.
وأسفت المصادر “لهذا الانحدار في الحياة السياسية”، ورأت “انّ المعارك الطائفية المفتوحة هي معارك مشبوهة وخطيرة ويجب مواجهتها بحزم، لأن التآمر على لبنان لا يمكن أن يمرّ إلّا من خلال تقسيم اللبنانيين وفرزهم، وهذا ما هو حاصل حالياً”. ودعت الى “معالجة المسائل الحساسة بمسؤولية وطنية بعيداً من لغة الاستفزاز المستخدمة والتي أعادت لبنان إلى زمن الحرب الأهلية”.
إدمون رزق
وحول الرسالة الرئاسية الى مجلس النواب، قال الوزير والنائب السابق إدمون رزق لـ”الجمهورية”: “إنّ المجلس النيابي هو المختص بتفسير الدستور، ورئيس الجمهورية له صلاحية توجيه رسائل إلى مجلس النواب. وهذه الرسالة في موضع قانوني ودستوري، لأنّ هناك موضوعاً ملتبساً يحتاج إلى حسم يُفترض ان يفسّره مجلس النواب. ففي “الطائف” اتفقنا على وثيقة وفاق وطني، وكان أساس هذا الوفاق الوطني اعتماد المناصفة، وأضفنا الى المادة 95 بناء على اقتراحي الشخصي، اعتماد الكفاءة والاختصاص”.
ورأى رزق أنّ “المحافظة على المناصفة من أسس الوفاق الوطني والمطلوب المحافظة عليها ضمن مبادئ الكفاءة والاختصاص. وصحيح كان التركيز على الفئة الاولى من دون تخصيص أي وظيفة لأي طائفة، لكن مقتضيات الوفاق الوطني طالبت بتأمين المناصفة بكل الفئات، ولذلك العمود الفقري للوفاق الوطني هو تثبيت المناصفة”.
بطرس حرب
بدوره، تخوّف النائب السابق بطرس حرب “من ان تفتح هذه الرسالة الرئاسية باب النقاش في الاسس التي قام عليها “اتفاق الطائف”، وتُحركِش في وِكر دبابير، وتفتح باب جهنم علينا، وتُعرّض “الطائف” للخطر، وتكون مناسبة لبعض الغايات المشبوهة، وأن يُقفز عليها لإعادة طرح موضوع “الطائف” بكامله وخطر الانتقال مما تمّ الاتفاق عليه في الطائف الى ما يسمّى بدل المناصفة، الى طروحات اخرى كالمثالثة او الفدرالية او الصيغ اللامركزية الادارية الموسعة التي من شأنها ان تضرب كل القواعد التي قام عليها إتفاق الطائف”.
وقال حرب لـ”الجمهورية”: “قد تؤدي هذه الرسالة الى مشكلة جديدة مفادها كيف سيفسّر المجلس النيابي المادة، لأنّ هناك نظريتين متناقضتين، فتفسير الدستور يستدعي موافقة ثلثي أعضاء المجلس، لأنّه يشكّل نوعاً من تعديل الدستور، ونظرية ثانية تقول ان تفسير الدستور لا يحتاج إلا للاكثرية العادية”.
ورأى حرب “أنّ توجيه الرسالة الى مجلس النواب لم يساهم في حل المشكلة لكن قد يكون طرح القضية بهذا الشكل مناسَبة لاعادة تنفيذ لما ينص عليه “اتفاق الطائف” وما تنص عليه المادة 95 والبدء بتنفيذها بجدية، لكن من المفيد أن يُطرح هذا الموضوع في جو بعيد عن التشنج والعنتريات والاستفزاز واثارة الغرائز الطائفية”. وأشار إلى “أنّ وضع صيغة “وفقاً لمقتضيات الوفاق الوطني”، كان بهدف تفادي الوصول الى نتائج غير مرغوب فيها، كأن تتفرّد بعض الطوائف بإدارة معينة”.
حادثة قبرشمون
انطلقت أمس حركة اتصالات مكثفة حول مسعى جديد كان قد بدأ به المدير العام للأمن العام اللواء عباس ابراهيم قبل سفره الاخير الى قطر، واستكمله عند عودته في الساعات الماضية في حراك مكوكي ما بين بعبدا والسراي الحكومي وعين التينة وخلدة وكليمنصو.
وحرص ابراهيم على ابقاء المبادرة الجديدة طي الكتمان، لكن رشحت معلومات لـ”الجمهورية” تحدثت عن سيناريوهين:
ـ السيناريو الأول قديم جديد، وهو طرح المجلس العدلي على جدول اعمال مجلس الوزراء بقرار يتخذه الرئيس سعد الحريري، وتكون أجواؤه مؤمّنة ونتيجة التصويت عليه معلومة، بحيث يطوى معه الخلاف باتخاذ المسار القانوني الذي يقبل به طرفا الازمة.
ـ السيناريو الثاني، خلو جدول اعمال مجلس الوزراء من اي بند يقارب قضية قبرشمون، وهذا الأمر يميل الحريري اليه، بشرط ان يصدر بيان سياسي عن مجلس الوزراء يدين حادثة قبرشمون ويترك الحكم للأجهزة القضائية المختصة.
ولم يحصل ابراهيم على أجوبة نهائية بعد على الافكار التي طرحها، إذ زار أمس عين التينة، والسراي الحكومي مرتين، واجتمع برئيس الجمهورية في لقاء ثنائي، قبل اللقاء الموسع الذي ضمّ اليهما النائب طلال ارسلان والوزير صالح الغريب وبعض الوزراء.
وعلمت “الجمهورية”، ان الحريري تريث مرة جديدة في عقد جلسة لمجلس الوزراء منتصف الاسبوع الجاري، على خلفية الافساح في المجال لهذه الحركة المكوكية في التوصل الى اتفاق وعدم الذهاب الى جلسة أمر واقع بمن حضر تزيد الأزمة تأزيماً، ولكنه عاد وأبلغ الى المعنيين أنه سيدعو الى جلسة حسب الاصول الدستورية، إما خلال اليومين المقبلين، أو مطلع الاسبوع المقبل.
رفض جنبلاطي
والى ذلك، ما ان حلت ساعات المساء وفيما كان ابراهيم يزور بري لإطلاعه على أجواء اجتماع بعبدا، كان الحريري يجتمع بوزير الصناعة وائل ابو فاعور موفداً من رئيس الحزب التقدمي الاشتراكي وليد جنبلاط ناقلاً اليه رفضه الصيغة المقترحة، حسبما ابلغت مصادر الحزب الى “الجمهورية” ليلاً، مؤكّدة تأجيل زيارة ابراهيم لجنبلاط التي كانت مقررة ليل أمس الى وقت لاحق. واكّدت “ان المعالجات عادت الى نقطة الصفر لأن إحياء ما كان مرفوضاً من المقترحات لم يكن منطقياً على الإطلاق”.
إدعاء
قضائياً، إدّعى مفوض الحكومة المعاون لدى المحكمة العسكرية القاضي كلود غانم، على 21 شخصاً في حادثة قبرشمون – البساتين، بينهم أربعة موقوفين، بجرم إطلاق النار من أسلحة حربية غير مرخصة، وقتل ومحاولة قتل مدنيين. وأحال الملف مع الموقوفين الى قاضي التحقيق العسكري الأول بالإنابة فادي صوان، طالباً إستجواب المدّعى عليهم، وإصدار المذكرات القضائية اللازمة في حقهم.