كتبت صحيفة “الجمهورية” تقول: هي المرّة الأولى التي تتعرّض فيها موازنة عامة الى هذا القدر من التجاذبات والمزايدات حولها، قبل ان تُحال الى مجلس النواب ليمنحها سمة الدخول الى حيّز النفاذ. وهي المرة الأولى التي لم يعد يعرف فيها من يُعد الموازنة، والتي يضيع فيها الطباّخ الاساسي بين كثرة الطباخين الذين هجموا على المطبخ دفعة واحدة، وكل واحد منهم يحمل وصفته. وفيما الانظار الداخلية متجهة نحو الموازنة، فإنّ أعين العالم تتابع الأحداث المتسارعة، بدءاً من التحضيرات الجارية للإعلان عن صفقة القرن، والتطورات الملتهبة في الميدان السوري، مع الاشتعال المتجدّد على جبهة ادلب، وكذلك تفاقم التوتر بين الولايات المتحدة الاميركية وإيران، خصوصاً بعدما دفع الطرفان بقطع بحرية الى المنطقة، الامر الذي يضع المنطقة على حافة احتمالات وسيناريوهات تصعيدية.
كثرة الطبّاخين، أطالت عمر النقاش في الموازنة. منذ بداية الطريق لم تتخطّ التوقعات سقف الثلاث او الاربع جلسات لمجلس الوزراء على الأكثر، لكن حتى يوم أمس، صرنا امام “دزينة ونصف” من الجلسات، اي 18 جلسة، والحبل على الجرار، مع تحديد جلسة تاسعة عشرة يوم غد الجمعة.
خذوا وقتكم
كانت جلسة الأمس، قد بدأت في اجواء مشحونة، واحتدم النقاش حول أكثر من تفصيل، وتداخلت المداخلات الوزارية، حتى بدا انّ القصد فقط ليس طرح اقتراحات وافكار عملية بل تضييع الوقت. وكادت الجلسة في لحظة معيّنة ان تصل الى مرحلة الضياع، وهو الامر الذي أثار استياء رئيس الحكومة سعد الحريري، الذي لوّح برفع الجلسة من دون ان يحدد موعداً للجلسة المقبلة.
إجتماع فاشل
وسبق الجلسة اجتماع مصغّر عُقد في السراي الحكومي برئاسة الحريري، وحضور علي حسن خليل، جبران باسيل، كميل أبو سليمان، محمّد فنيش، وائل أبو فاعور ويوسف فنيانوس. وبحسب المعلومات، فإنّ هذا الاجتماع تحوّل الى تمديد للأزمة المستجدة بين الوزيرين خليل وباسيل، على خلفية إعلان الاول انّ الموازنة “خلصت”، وإصرار الثاني على إدخال اكبر قدر ممكن من الإجراءات الى مشروع الموازنة.
وبخلاف ما اراد الحريري من هذه الدعوة، وهو التهدئة والتوصل الى تفاهم وامتصاص التوتر، فقد زاد الاجتماع، الذي دام لأكثر من ساعتين، في تعميق الخلاف وإبقاء كل طرف على قناعاته وسلاحه. وكانت النتيجة ان امتدّ الخلاف الى مجلس الوزراء.
وعلمت “الجمهورية”، انّ باسيل عرض مجددًا للائحة من 12 اقتراحاً لإضافتها الى الموازنة، باعتبار انّ هذا هو طرحه الاخير، ويجب الاستفادة من الفرصة والعمل على أكبر نسبة تخفيض، فعارضه الوزير خليل بشدّة لأنّ الوقت لم يعد يسمح.
وبحسب المعلومات، انّ باسيل وخليل لم يتفقا، فانتقل الجميع الى مجلس الوزراء لاستكمال البحث، ما دفع بأحد الوزراء المشاركين في الاجتماع الى وصفه بأنّه كان لزوم ما لا يلزم، لأنّه اخفق في التوصل الى اتفاق.
وتضمّ لائحة باسيل:
– التدبير رقم 3 الذي أحيل الى اجتماع يُعقد بين وزير الدفاع ووزيرة الداخلية وقائد الجيش ومدير عام قوى الامن الداخلي.
– تطبيق إخضاع مصرف لبنان لضريبة على الفوائد.
– وضع سقف لمنح التعليم – تخفيض الرواتب العالية – وقف الدرجات او مفعولها المالي – الغاء التوظيفات التي حصلت خلافاً للقانون 46 – إقفال المعابر وضبط الحدود ووقف التهرّب الضريبي، تخفيض المساهمات – رسوم على اليخوت، رفع ضريبة الرمل والبحص من 1000 الى 15000 ليرة لبنانية.
– تخفيض إضافي في موازنات الوزارات، ولاسيما الصحة والشؤون والشباب والرياضة. وأعلن باسيل استعداده لخفض 10 مليارات إضافية في وزارته – الغاء وزارة المهجرين.
وكان لافتاً تعليق الرئيس الحريري على بعض البنود بقوله: “بدّك تعمل ثورة اجتماعية”.
وفي معلومات “الجمهورية”، انّ الوزير باسيل لم يكن مستفزاً بكلامه، لكنه بدا مصراً على طرحه الى حدّ العناد، وقال: “كلنا بدنا موازنة، وتصوير الأمر وكأنه إذا لم ننتهِ يعني سيكون هناك رابح وخاسر هو غير صحيح، نحن باستطاعتنا ان نفعل المزيد حتى لا نصل الى وقت نقوله فيه للناس “ما بقى فينا ندفع”، فلا أحد يأخذ الأمر وكأنه صراع أو خلاف شخصي”.
واقترح الحريري رفع الجلسة باستياء، وبدا على وجهه التوتر والتعب. فتدخّل الوزير ابو فاعور وقال: “نحترم قرارك الشخصي، لكن لا يجوز أن ننهي الجلسة بأجواء سلبية قد تخلق بلبلة في الأسواق، ونتمنى اعطاء فرصة أخيرة، يمكن تبنّي بعض ما طرحه باسيل. وأقترح تحديد الجلسة المقبلة بعد التشاور مع رئيس الجمهورية ومن لديه مسائل عالقة فليقدّمها على ورقة”.
وقال الحريري: “نحن نعدّ موازنة 2019، ويجب ان تعلموا انّ النتيجة جيدة، وفي موازنة 2020 سنصل الى عجز 6,5% مع تخفيض عجز الكهرباء، غداً ( اليوم) لا جلسة لمجلس الوزراء، سنعود الجمعة “بدنا نخلص”، واذا لا، فالاثنين .. “أديش بدّي كون صبور”، أظن انّ “التنزيل” كافٍ، والمنظمات الدولية كانت تتوقع 9%، لكننا استطعنا الوصول الى 7,5%، فلتأخذوا 48 ساعة، ومن لديه مقترح ليناقشه معي او مع وزير المال غداً، “الجمعة بدنا نخلص”.
وكان خليل قد تحدث في نهاية الجلسة مطولاً، وقال: “تعاطيت بانفتاح طوال الفترة السابقة وتجاوزت الأصول أحياناً للوصول الى توافق وتفاهمات، واعتبرت أنّ الكل شركاء ومعنيون ووصلنا الى موازنة بالمشروع الأساس ومع تعديلات حققت نتائج جيدة جداً”.
وأضاف: “الدولة لا تتوقف عند موازنة، وما نقوم به هو عمل مجالس الوزراء، خارج الموازنة، لماذا وضع كل المشاكل في داخلها، سمعت كثيراً عن توجّهات اقتصادية، لم نرَ منها شيئاً ولم نلمس ما يخدم السياسة الاقتصادية. نحن معنيون بتظهير موقف موحّد للدولة وبشكل قوي” وكل الزيادات لن تحقق انجازاً نوعياً”.
الحسن لـ”الجمهورية”
من جهتها، وفي السياق، قالت وزيرة الداخلية ريا الحسن لـ”الجمهورية”: “لا يجوز أن نتأخّر أكثر بالموازنة، ويجب أن ننتهي، يجب التنبّه الى اننا نبحث موازنة الـ 2019، وموازنة الـ 2020 يجب أن نقدّمها بعد شهر، وبالتالي علينا إنهاء الوقت cut of date ونعود الى بحث الأمور الأخرى لاحقاً. لا نستطيع ان نعالج كل الأمور مرة واحدة وعلينا إعطاء إشارة إيجابية الى الأسواق والمجتمع الدولي”.
“القوات” غير راضية
وقالت مصادر “القوات اللبنانية” لـ”الجمهورية”: انّ “القوات” غير راضية كلياً عن الذي حصل ويحصل، ووزراء “القوات” يضعون كل جهدهم لتحسين الأمور، ولكن في ظل جو التشنجات الشخصية نشك أن يحصل أي شيء، وبالتالي من الممكن ان يكون المخرج إرسالها الى مجلس النواب، لانّ جو النقاش غير منتج وغير مجدٍ، ويا للأسف، داخل الحكومة”.
بري: تقدّم
في هذا الوقت، نقل “نواب الاربعاء” عن رئيس مجلس النواب نبيه بري قوله: “نحن نتنظر هذه الموازنة التي تأخّرت أصلاً، وكما عبّرت مراراً فإنّ المجلس سيقوم بواجباته، وقد أعطيت التوجيهات لدرسها بوتيرة سريعة لإنجازها في لجنة المال خلال شهر”
وفي جانب آخر من لقاء الاربعاء، اكّد بري امام النواب “انّ اجواء المباحثات مع مساعد وزير الخارجية الأميركية السفير ديفيد ساترفيلد حول ترسيم الحدود البحرية إيجابية، وانّ هناك تقدماً واضحاً في هذا المجال، مشيراً الى الموافقة على الورقة اللبنانية”. وأعرب بري عن تفاؤله، معتبراً انّ “وحدة الموقف اللبناني كان لها الدور الأساس في هذا التطور الإيجابي، وأنا متفائل بانتصار الموقف اللبناني الرسمي والسياسي والشعبي”. وقال: “ربما الأسبوع المقبل يأتينا الجواب عن مجمل الورقة اللبنانية، ونحن نتابع الموضوع”.
خبراء
واذا كان اللبنانيون يعوّلون على ان تنعكس الموازنة انفراجاً في الوضع الاقتصادي، الّا انّ خبراء اقتصاديين يؤكّدون لـ”الجمهورية”، انّ على اهمية تخفيض العجز في الناتج المحلي، وهو امر لا يلبي شروط “سيدر”، فإنّ الانعكاس الايجابي للموازنة ليس مرجحاً بالقدر الذي يعدون به. ذلك انّ الموازنة في مجملها رقمية حسابية، وتفتقد الى رؤية اقتصادية او مالية لها، وهذه الرؤية هي الشرط الاساس لكي تعكس الموازنة تغييرات جدّية على الاقتصاد الوطني. وبالتالي ما هي الّا موازنة لخدمة الدين العام فقط.
وزني: التخفيض إيجابي
وقال الخبير الاقتصادي غازي وزني لـ”الجمهورية”، “انّ تخفيض العجز بالنسبة المعلن عنها اي الى 7,6، او 7,3%، هو امر ايجابي جداً بالنسبة الى الوضع الاقتصادي والمالي، وهو ايضاً رسالة ايجابية الى المجتمع الدولي، والاسواق المالية الدولية، ووكالات التصنيف الدولية.
الا انّ وزني لفت الانتباه الى انّ منحى هذا الخفض يتوجب ان يستمر في مشروع موازنة العام 2020، لانّ التحضير لهذه الموازنة، يفترض ان يبتدىء من قِبل الوزارات حسب قانون المحاسبة العمومية، في حزيران 2019، اي الشهر المقبل. واكّد وزني، انّ على الحكومة الالتزام بنسبة هذا العجز وما دون، والّا نشهد تطورات كالتي حدثت مع موازنة العام 2018، التي شهدت تدهوراً في الإنفاق وتقديرات غير دقيقة في الايرادات.
ورأى، انّ موازنة العام 2020 ينبغي ان تكون اصلاحية على صعيد هيكلة القطاع العام، والنظام التقاعدي وخدمة الدين والتقديمات الاجتماعية، وان تكون ايضاً اصلاحية على صعيد النظام الضرائبي في إدراج الضريبة الموحدة على المداخيل، وفي التعامل بجدّية اكثر مع ملف الاملاك العمومية البحرية، كما يقتضي في مشروع موازنة 2020 ان تتضمن رؤية اقتصادية اجتماعية، وإجراءات تحفيزية للنمو الاقتصادي.
خفض افتراضي للعجز
في المقابل، وفي سياق متابعة ما يجري على صعيد خفض العجز، تُطرح في اوساط اقتصادية تساؤلات حول مدى الجدّية في مقاربة هذا الموضوع. فكل يوم تطالعنا الحكومة برقم جديد أدنى من السابق، حتى وصلت امس الى 7,5%، أي انّ العجز المقدّر للعام 2019 سوف يتراجع بنسبة 3,8% مقارنة بالعجز الذي سُجل في العام 2018، بما يعني تراجعه بحوالى ملياري دولار وربما أكثر. فمن أين سيتحقق هذا الوفر؟ وما هي الدلائل على انّ تجربة 2018 لن تتكرّر؟ اذ انّ العجز المقدّر كان حوالى 8,5% لكنه وصل الى 11,3% في نهاية العام.
ما يزيد في الشكوك، في رأي هذه الاوساط، هو انّ التأخير في اقرار الموازنة في مجلس الوزراء سيؤدّي الى تأخير اقرارها في المجلس النيابي الى النصف الثاني من تموز، هذا اذا لم تحصل مفاجآت. وبالتالي لا يتبقى من العام 2019 سوى 5 أشهر. فهل يمكن تحقيق هذا الخفض في العجز في هذه الفترة القصيرة؟ التساؤلات في هذا المجال تكاد تكون اكثر من مجرد شكوك، وبعض الوزراء يقول في مجالسه، انّ العجز الحقيقي لا يمكن ان يكون نفسه العجز المقدّر الذي سيتم الاعلان عنه، بما يعني انّ من يصنع الموازنة اليوم يُدرك في قرارة نفسه انه يضع ارقاماً للاستهلاك، في حين انّ الأرقام الحقيقية ستكون مختلفة وعلى الأرجح، مخيبة للآمال.
جابر
الى ذلك، قال النائب ياسين جابر انّ “هناك فريقاً يحاول المزايدة، من خلال البحث في مشروع الموازنة العامة على طاولة مجلس الوزراء، اذ بعد عقد 17 جلسة تذكّر البعض اموراً كان يُفترض ان تُبحث منذ الجلسات الاولى”.
وأبلغ جابر “الجمهورية”: “انّ إنجاز الموازنة بعجز منخفض امر بالغ الاهمية. الّا انّ الامر لا ينبغي ان يتوقف عند هذا الحد، بل يفترض الانتقال الى اجراءات وخطوات اصلاحية تأخذ البلد في اتجاه الانفراج”. وإذ اشار الى انّ الدولة هي المسؤولة عمّا آل اليه الوضع، اكّد “انّ المشكلة المزمنة التي يعاني منها لبنان سببها الاساس عدم تطبيق القوانين، والاستنسابية في تطبيق بعضها، علماً انّ كثيراً من القوانين المعطلة، والتي لامست حتى الآن الـ52 قانوناً، من شأنها ان تشكّل رافداً للوضع الاقتصادي”. وحذّر جابر من انّ الاستمرار في تعطيل هذه القوانين، سيترتب عنه سلبيات كبيرة، وقال: “اي عملية إصلاحية لا تستقيم مع وجود هذا المنحى التعطيلي، وأخشى مع استمرار التعطيل ان يطاح بكل ما تسعى اليه الموازنة”.
وقال: أن اللجنة النيابية لمتابعة تطبيق القوانين النافذة التي يرأسها: “قامت بما عليها، وستستمر، وحضّرنا سلسلة اسئلة الى الحكومة، ولاسيما الى الوزارات المعنية، حول القوانين التي لم تُنفذ، وارسلناها الى الحكومة عبر رئاسة المجلس النيابي حسب الاصول القانونية من اجل عقد جلسات تُخصّص لاستجواب الحكومة والوزراء المعنيين في هذا الامر”.