سؤال محير فعلاً، شغل الباحثين من علماء نفس وعلماء اجتماع ردحاً طويلاً من الزمن، ومازال حتى يومنا هذا موضوع نقاش من دون الوصول الى نتيجة حاسمة.
وهناك بطبيعة الحال اسباب كثيرة حالت وتحول دون الوصول الى هذه النتيجة الحاسمة، ومنها على وجه التحديد عدم التوصل الى تعريف دقيق للصحافة.
هل هي علم من العلوم، كعلوم الطبيعيات والرياضيات ؟
هل هي مهنة من المهن المعروفة، كالهندسة مثلاً او الطب او المحاماة او الصيدلة او أي من المهن الأخرى ؟
هل هي فن من الفنون كفن الرسم مثلاً او الشعر والأدب والموسيقى ؟
هل هي صناعة كباقي الصناعات ؟
هل هي كل هذه الأسماء والتصنيفات مجتمعة أي انها علم ومهنة وصناعة في آن؟
فإذا كانت الصحافة كل ما تقدم، فحري بنا الإعتراف بكونها موهبة في الأساس يصقلها العلم بما يعنيه من معارف وثقافات متنوعة تتناول كل اوجه حياة البشر، اقتصادياً واجتماعياً، وثقافياً وتربوياً وعلوماً وفنوناً على اختلافها.
وفي اعتقادنا ان الصحافة هي كل ما ذكرت، بمعنى انها علم وفن ومهنة وصناعة، وان كانت بعض النظريات القديمة تقول بان الصحافة فن كغيره من الفنون، انتقل من اسلوب الى اسلوب، تطور مع الزمن واصبح يغلب عليه الطابع الذاتي.
لكن اصحاب هذه النظرية يقرون بوجود انقسام حولها، فعلماء النفس وعلماء الإجتماع يرجحون كفة ذاتية الفنان، وان شخصيته هي مبدعة الفنون الجميلة بصرف النظر عن الظروف الفكرية والإجتماعية التي تعيش فيها، بينما يذهب علماء الإجتماع الى ان الظروف الإجتماعية التي يعيش فيها الفنان هي التي تؤثر عليه وعلى انتاجه، وكان من نتيجة هذا الإختلاف ان ظهر ما يسمى بمشكلة الفن اياً كان لونه ، كما ظهر من قبل مشكلة الفلسفة وتغيير الكون والإنسان والميتافيزيقيا.
ولكن مهما اختلفت اتجاهات الفن في العصر الحديث، ومنها بطبيعة الحال اتجاهات الفن الصحفي، الا ان هناك قواعد وتقاليد صحفية تكاد تلم باطراف الفن الصحفي في العصر الحديث، هذه التقاليد بعضها موروث وبعضها نتج عن التطور الذي يلازم طبيعة الحياة الديناميكية بمعنى ان الصحافة بوصفها فناً لاتستطيع ان تعيش بمعزل عن التطور الذي يلازم طبيعة الحياة بكل مفاهيمها الثقافية والعلمية.
والقائلون بان الصحافة علم وفن يقرون كذلك بان هناك عدم انسجام في هذا العنوان اذ كيف يمكن ان تكون الصحافة علماً وفناً في وقت واحد، بينما العلم يتناول موضوعات خاضعة لقوانين علمية جامدة والفن لايخضع لقوانين كما هو حال العلم، او بمعنى اخر ان العلم موضوعي والفن ذاتي.
لكنهم يعودون ويقرون بعدم وجود تناقض بين الأمرين، لان الموضوعات والعلوم الصحافية اصبحت تدرس كغيرها من العلوم في معظم دول العالم المتقدم والنامي ما عدا قلة محدودة جداً لاتهتم حتى الآن بدراسة الصحافة باعتبار العامل الذاتي هو المسيطر عليها.
ومهما يكن من امر فليس هناك تناقض بين الناحيتين اذ لا يمنع ان يتزود الصحفي بالمعلومات وان يقوم بدراسة العلوم ذات الصلة بالصحافة، لان ذلك سوف يساعده بلا شك في تكوين صورة حقيقية لما يكتب عنه، كما سوف لا يمنعه ذلك من الإستعانة بمواهبه وتحكيم ذوقه الصحفي، وهنا تكمن علة المواهب.
لقد درس هذا الموضوع دراسات محددة منذ زمن بعيد الى ان اخذت هيئة الأونسكو في دراسته بتعمق بمشاركة عدد من الخبراء من مختلف الدول وصدر عنهم تقرير مطبوع بعنوان “التأهيل المهني للصحافة” تبنى وجهة النظر التي تقول بوجوب العناية بالناحية العلمية والعملية في الصحافة الى جانب الثقافة الصحفية والفنية المكتسبة عن التجربة، على ان يكون ذلك على ايدي اساتذة بارعين في تدريس المادة الصحافية ، والعناية بفن التحرير والمقال والتعليق والتحقيق والريبورتاج ….الخ
والذي يهمنا مما جاء في هذا التقرير هو ان نشير الى الرأي القائل بضرورة تمتع الصحفي بقدر عال من الثقافة الصحفية، والتدريب المهني، ولا شك ان الثقافة الصحفية تشمل الى جانب الدراسة الصحفية – التقنيات – المعلومات الكافية في كل مجال له صلة بالعمل الصحفي حتى يمكن ان يقوم العمل ذاته على اساس صحيح.
ولقد ادرك الصحفيون العالميون ما يحيط العمل الصحفي من خطر، اذ كان لا يستند الى الثقافة العامة التي تغذي الكتابة الصحفية، مما جعل الكثيرين منهم يتجهون الى الدعوة لتنقية الجو الصحفي والكتابة الصحفية، كما احس المهيمنون على العمل الصحفي في كثير من دول العالم بالحاجة الى الثقافة الصحافية للصحفيين الذين كانوا يتناولون بعض الاحداث العالمية بالتحليل بينما لا يملكون المعلومات الكافية لكي يتناولونها ولعل هذا السبب الذي دعا الكاتب الكبير “برناردشو” للدعوة في وقت من الاوقات الى الفصل بين العمل الصحفي الاخباري وفلسفة السياسة الصحفية. ونحن نرى ان مثل هذا الفصل ضروري لكي نميز بين المخبر الذي يلتقط الاخبار ويجمعها وبين المحرر الذي يتولى “طبخ” الخبر، بمعنى صياغة الخبر وفق القواعد العلمية، وبين المحلل السياسي، وكاتب المقال والمحقق، وكاتب الافتتاحية والريبورتاج.
وهذا الفصل يوصلنا الى فهم ذلك اللغز المحير في الصحافة، ألا وهو الموهبة الصحفية، وماهية هذه الموهبة وأهميتها في سياق المعادلة؛ او السؤال المطروح هل الصحافة علم أو موهبة أو الأثنين معاً؟!
فاذا كنا نقصد بالصحفي المخبر الذي يجمع الأخبار من مصادرها، فهناك نظرية سائدة في عالم الصحافة تعطي الأولوية للموهبة على العلم دون أن تنهي اهمية العلم حتى بالنسبة الى الصحفي المخبر، كما حللها الصحفي الأميركي ” توماس بيري ” صاحب كتاب ” الصحافة اليوم”.
يقول بيري: “لاريب في ان اعظم عنصر في جمع الأخبار هو قدرة المخبر الذي ينشدها، فقد يغطي احد المخبرين اقليماً دون ان يجد خبراً واحداً ، بينما يستخلص مخبر اخر اكثر من عشرة اخبار من المنطقة ذاتها، وفي حالة اخرى قد لايجد احد المخبرين ما يكاد يكفي من المعلومات لخبر قصير، بينما قد يحصل مخبر اخر على ما يكفي لعمود كامل، وفي كل حالة من الحالات تقرر قدرة المخبر الفردية وموهبته كمية الأخبار التي حصل عليها ونوعيتها، وفي هذا فان كثيرين من الصحفيين العريقين في المهنة خليقون في ان يجملوا الأمر بالقول ان على المخبر ان يكون شماماً للاخبار، أي ان يكون موهوباً في تحسس الأخبار و”شمها”، وانهم لخليقون بالأستشهاد بحالات متتالية حصل فيها على الأخبار صحفيون ناجحون حيث اخفق غيرهم عازين ذلك الى قدرة فطرية على ايجاد الأخبار واكتشافها”.
ثم يستطرد بيري ليقول: “ومع هذا فثمة دحض واف لهذا القول القديم القائل انه لا يمكن جعل الإنسان مخبراً صحفياً، فهو اما ان يولد كذلك، او لا يولد، ذلك ان الكثيرين من المخبرين الصحفيين قد اصابوا نجاحاً بتعلمهم مهنتهم كما يتعلم الإنسان صنعة او حرفة، أي بالعمل الشاق وبالتيقظ الدائم، وبدراسة الوسائل التي ينهجها ابرز الناجحين في الميدان الصحفي”.
وهذا ما حدا في القرن التاسع عشر صحفياً عملاقاً في عالم الصحافة الأميركية هو جوزيف بوليتزر، المجري الأصل الذي نشأ على حد قوله في مدرسة التجربة التقليدية، أي صحافة الموهبة الى القول انه لا يوجد مهنة في العالم يستطيع الإنسان ان يحسن اداءها دون ان يؤهل لها التأهيل الكافي، وان الصحفيين الذين لم يؤهلوا يتعلمون مهنتهم على حساب الجمهور اذ لا يكفي ان يتلقوا تعليماً جامعياً بل يتوجّب اعدادهم اعداداً خاصا.ً
وايماناً منه بصحة هذه النظرية اوصى قبل وفاته بمليونين ونصف المليون دولار لتأسيس معهد صحافة ، وخصص جائزة صحافية لأفضل مؤلفات صحفية وادبية ثم تحول هذا المعهد ، الى ان اصبح كلية في جامعة كولومبيا.
كان بوليتزر الموهوب صحافياً يعكس بذلك خلاصة تجربته الذاتية ليخلص منها الى ان الموهبة ليست كافية لتصنع صحفياً ناجحاً ومجلياً اذا لم تصقل بالمعرفة على اختلافها وبالدراية والتدريب المهني بمعنى ان الصحافة – اذا صح التعبير – هي اختصاص الموهوبين.
وقد تبنت الأونيسكو في دورتها عام 1948 رأي بوليتزر واقرت في تقريرها انه ليس من مهنة تتطلب ثقافة متنوعة، وذهناً منفتحاً كالصحافة، كما اقرت انه من الضروري اعطاء تثقيف كاف للذين يمارسون مهنة الصحافة، اما الصحافيون العاملون فقد رأت ان يكتفى بصقلهم في دورات تدريبية وحلقات دراسية .
وفي عام 1956 عقدت الأنيسكو في باريس ندوة خبراء في موضوع تدريب الصحفيين، حضرها صحفيون ومدرسو صحافة من خمسة عشر بلداً، انتهت الى التوصية بانشاء مراكز اقليمية يعهد اليها في رفع مستوى التدريب المهني، وقد انشئ فيما بعد عدد من هذه المراكز في ستراسبورغ (المركز الدولي للتربية العليا في الصحافة)، وفي كيتو بالاكوادور (المركز الدولي للدراسات الصحفية العليا لاميركا اللاتينية) وفي دكار بالسنغال ( المركز الأفريقي الأقليمي للدراسات في علوم الإعلام الواسع واساليبه التقنية)، وفي غيرها من الدول، حتى انه لم يبق بلد في العالم الا وانشأ معاهد وكليات لتعليم الصحافة والتدريب عليها.
لئن كان الخبر الصحيح هو الحجر الأول في بناء الصحافة وفي ضمان حريتها التي يجني عليها اكثر ما يجني الإنحراف في تحريره، او البعد عن الحقيقة في روايته، وكانت الصياغة والفن كتابة واخراجاً هما العنصران اللذان يضيفان على الخبر والتحقيق والريبورتاج الطابع المشوق والجذاب. وكان الرأي والمثال والتعليق روافد الفكرة والثقافة والمعرفة الخاصة والعامة والإبداع التي من دونها يبقى عرش صاحبة الجلالة عرشاً كرتونياً، وسلطانها سلطاناً زائفاً قائماً على الجهل والإرتجال، ومحكوماً عليه عاجلاً ام آجلاً بالزوال.
لئن كان كل ذلك صحيحاً، وهو صحيح، وكان المسؤولون الى ذلك الواقع هم الذين تقوم على اكتافهم واقلامهم مهمة الإعلام، فان من الخطر على الصحافة استمرار الإعتقاد بان المحرر والمخبر يكفيهما اقل قدر من الثقافة والعلم والمعرفة ، واكبر قدر من الموهبة ، فيما تتسع آفاق هذه المهنة بحيث تشمل كل مجالات الحياة، وتتعمق جذورها بحيث تتصل بكل الإختصاصات، ومظاهر النشاطات البشرية ، حتى ليفرض في الصحفي – المخبر- الذي يستقصي خبراً اياً كان نوعه، واياً كانت قيمته، وفي المحرر الذي يقيمه ويصنفه، ويدفعه الى القرّاء ان يكون الى حد ما موسوعة تحوي من الوان المعارف، وانواع الإختصاصات، ما لا يفترض تيسره للعامل في أي مهنة اخرى
من هنا، يحتاج الصحفي مع الموهبة والميل الفطري الى قدر كاف من الثقافة العامة المتعددة النواحي – يعرف شيئاً من كل شئ- والى دراسة جامعية تستمر حتى بعد التخرج بالمطالعة والدرس، وبالرجوع الى المصادر والكتب ، والموضوعات وبذلك يتخذ الفضول الذي يعد من اهم الصفات التي يجب ان يتحلى بها الصحفي معناه الحق المجدي للنفس وللغير، كذلك الأمر بالنسبة الى الموهبة والرغبة.
البديهيات ان الصحفي المسؤول عن تنوير الرأي العام، وتغذيته، بصورة دائمة بالأخبار والأراء عن كل ما يجري حوله، وفي العالم من احداث وتغيرات واكتشافات، وتيارات، ونزاعات، والمسؤول عن اشراك قارئه اوسامعه او مشاهده، بحركة الحياة العامة، على الصعيدين الوطني والعام اشتراكاً حياً متفاعلاً بقدر ما تتيح وسائل الإعلام المتطورة من اتصال دائم وسريع وفاعل، تتقلص معه الأبعاد وتتوحد الأفكار والعواطف والتطلعات في عالم تحول بفضل هذه الوسائل الى قرية كونية صغيرة
من البديهيات، ان الصحفي المسؤول عن كل ذلك، والطامح عبر ذلك الى الإضطلاع باعباء دور قيادي ورسولي لا يصح ان يكون دون مستوى قارئه العادي، ثقافة وعلماً وخبرة في ما يتولى معالجته من شؤون
وليس اصدق من القول المأثور: ان الطبيب اذا اخطأ قتل مريضاً، اما الصحفي الذي يخطئ يقتل شعباً او يعرّض حياة امة للموت
خلاصة القول انه لم يعد بالإمكان ان يكتفي رجل الإعلام بمواهب فطرية مهما عظمت لإتمام مهمته على اكمل وجه ، بل المطلوب منه ان يكون ذا معارف متعددة، ومؤهلات متنوعة تتناسب مع تعاظم مسؤوليته وتقدم العلوم والتقنيات، ومع تكاثر طرق الاتصال، وسرعة التطور السياسي والإجتماعي، ومع وعي القارئ. اذ ليس المطلوب منه ان يتخصص بكل شيء ولكن عليه ان يكون ملماً بكل شيء تقريباً، لكي يجاري قراءه وسامعيه، او مشاهديه فلا القارئ ولا السامع، ولا المشاهد يقبل ان يتأثر بإعلام يقل عن المستوى الذي بدأت تصل اليه غالبية الشعب ، بفعل وفرة وسهولة التعليم، ولا بد في حالة كهذه ان يصبح الإعلام علماً، وان يطلب من الذي يتولاه ان يكون مهيئاً لأداء مهمته اكان من جهة الثقافة العامة او من جهة التخصص الجامعي.
ولئن ادركت الدول اهمية التخصص في الإعلام، فانشأت المعاهد وكليات الصحافة حتى اذا اجتمع الإختصاص مع الموهبة انتجا صحفياً مبدعاً.
وزارة الاعلام اللبنانية
مديرية الدراسات والمنشورات
اعداد: د. عامر مشموشي