ألقى الامين العام لجامعة الدول العربية أحمد أبو الغيط كلمة خلال الجلسة الافتتاحية للدورة الرابعة من القمة العربية التنموية: الاقتصادية والاجتماعية، جاء فيها:
“إنه لمن دواعي سروري واعتزازي أن نجتمع اليوم في رحاب الجمهورية اللبنانية لافتتاح أعمال الدورة الرابعة للقمة العربية التنموية: الاقتصادية والاجتماعية. ويطيب لي بهذه المناسبة، أن أتوجه بخالص التهنئة لكم فخامة الرئيس، وإلى بلدكم العزيز على تولي رئاسة الدورة الرابعة للقمة، متمنياً لكم التوفيق والسداد.
كما يسرّني أن أتوجه بجزيل الشكر والتقدير إلى خادم الحرمين الشريفين جلالة الملك سلمان بن عبد العزيز آل سعود وللمملكة العربية السعودية على رئاسة الدورة السابقة للقمة، والإدارة المُقتدرة والحكيمة لأعمالها.
إن قمتنا هذه تُعقد بعد غياب دام ست سنوات .. شغلتنا فيها الأحداث الجسام، وواجهت خلالها بعض دولنا –ولا تزال- مختلف صنوف التحديات الأمنية والاضطرابات السياسية والأزمات الإنسانية .. على أن هذه التحديات، على شدتها وخطورتها، تظلُ امتداداً وانعكاساً للتحدي الأخطر المرتبط بتحقيق التنمية الشاملة، والاستجابة للأزمات والمشكلات الاجتماعية التي غالباً ما تُصاحب عملية النمو والتحديث.. لقد أثبتت الوقائع التي شهدها العالم العربي في تاريخه المعاصر أن التنمية والأمن والاستقرار تُشكل كلها حلقات في منظومة واحدة مترابطة.. فلا تنمية متواصلة من دون مظلة من الاستقرار والأمن تُحصنها من الردات العكسية والانتكاسات، وتضمن استمرار مسيرتها دون انقطاع .. ولا استقرار حقيقياً ومُستداماً من دون نمو شامل يلمس جوانب حياة الإنسان كافة.. ويرتقي بها ويُحسن نوعيتها.
والحقُ أن السبيلَ إلى التنميةِ صار معروفاً، وإن لم يكن بأي حالٍ سهلاً أو ميسوراً .. سلكه غيرنا من قبلنا، وصارت له محددات ومتطلباتٌ .. أولها؛ بطبيعة الحال، هو تحقيق معدلات عالية من النمو الاقتصادي لا تقل عن 6 أو 7% سنوياً لفترة زمنية ممتدة .. وبرغم أن ثمة تحسناً نسبياً طفيفاً في معدلات النمو الاقتصادي المتوقعة في المنطقة العربية، والتي تصل إلى 2.7% خلال العام الجاري، إلا أن هذه المعدلات لا زالت غير كافية لتحقيق الطفرة التنموية المنشودة، فضلاً عن أن استمرارها وتواصلها يظل رهناً باستقرار الأوضاع السياسية والأمنية الذي ما زالت بعضُ دولنا ومجتمعاتنا تدفع ثمن غيابه خلال الأعوام الماضية.
وبرغم جهودٍ مشهودة بُذلت خلال الأعوام الماضية على صعيد النهوض بالأوضاع الاقتصادية ، خاصة في مجال البنية الأساسية والمواصلات والاتصالات.. فإن المنطقة العربية لا زالت بعيدة عن إطلاق إمكانياتها الكامنة، وتحقيق تطلعاتها المُستحقة .. ما زالت أكثر من نصف صادرات العالم العربي من المواد البترولية .. وتظل هناك حاجة أكبر للعمل على تنويع الاقتصادات لتحصينها من التقلبات المرتبطة بأسعار الطاقة.. ثمة حاجة كذلك لتحسين بيئة الأعمال وتعزيز التنافسية وتحفيز ثقافة المبادرة وريادة الأعمال .. نعم هناك تقدم نشهده جميعاً على هذه الأصعدة.. وهناك إصلاحات مؤسسية ومالية تتصف بالجرأة والرغبة الحقيقية في مواجهة جوهر المشكلات الاقتصادية التي تؤرق الدول العربية وتحرمها من الانطلاق.. غير أن المنطقة – باستثناءات معدودة- ما زالت تفتقر إلى الحجم الكافي من النشاط الاقتصادي ذي الانتاجية العالية والقيمة المضافة الكبيرة .. وتظل أيضاً غير مهيأة للانخراط في الاقتصاد الرقمي –اقتصاد المستقبل- القائم على الابتكار والابداع.
إن الفجوة الرئيسية التي تفصلنا عن تطورات الاقتصاد العالمي تتعلق في الأساس برأس المال البشري.. لقد صارت المعرفة والابتكار، لا التصنيع أو الخدمات، هما المولد الأكبر للقيمة المضافة العالية في ظل تسارع الظاهرة المسماة بالثورة الصناعية الرابعة بتطبيقاتها المختلفة .. إن الاستعداد لمواجهة تبعات هذه الثورة التكنولوجية يتعين أن يحتل صدارة أولوياتنا في المرحلة القادمة، ويتطلب الأمر جهداً أكبر في تضييق الفجوة الرقمية مع مناطق العالم الأخرى، إذ لا زال أكثر من نصف سكان العالم العربي غير متصلين بالانترنت .. إن سكان العالم العربي هم من أكثر سكان العالم شباباً.. وإن لم نحسن استغلال هذه “النافذة الديموغرافية ” فسوف تتحول هذه الكتلة الشبابية إلى عبء على الاقتصادات، بل ومحرك للاضطرابات، وعلى الأرجح بيئة خصبة لشتى صنوف التطرف الديني والسياسي.
إن النمو المنشود أداته الإنسان وغايته الإنسان، ولا يتحقق سوى بالاستثمار في الإنسان؛ تعليماً وصحة .. غذاء وكساء.. ثقافة ووعياً … والمفتاح هنا هو التعليم الذي يُعد العامل الأساسي في بناء ومراكمة رأس المال البشري.. إن العالم العربي يحتاج وقفة حقيقية مع النفس في شأن تدني مستويات التعليم واطراد التدهور فيها.. والأخطر؛ هو اتساع الفجوة بين التعليم وسوق العمل، وضعف العلاقة بين مخرجات التعليم ومقتضيات النمو الشامل.
وإذا كنا نتحدث عن التعليم ومخرجاته، فلا نُغفل الدور المحوري للمنظومة التعليمية –وكذا الأجهزة الإعلامية- في مواجهة الفكر المتطرف وفي بناء وعي اجتماعي حقيقي رافض للغلوّ والتشدد بكافة مظاهره وأشكاله.. وإننا نتابع جهودكم، أصحاب الجلالة والفخامة والسمو، في التصدي لهذا الفكر الضال المُضل بكل شجاعة وبروح من المسئولية التاريخية في الدفاع عن مستقبل هذه الأمة الذي لن يُبنى إلا على وعيّ صحيح، وثقافة تقبل الاختلاف والتنوع، وعقل يتحاور مع الآخر ؛ أخذاً وعطاءً، قبولاً ورفضاً.. من دون أن يُفضي الحوار إلى الكراهية، أو يتحول الرفضُ إلى العنف.
والحقُ أن الإسراع بانتشال أكبر عدد من السُكان من هوة الفقر المدقع هو الطريق الأمثل لتجفيف منابع التطرف والإرهاب .. إن نحو 20% من سكان العالم العربي يعيشون في أوضاع تدخل تحت مُسمى الفقر متعدد الأبعاد، والذي يُقاس ليس فقط بمؤشرات الدخل، وإنما بفرص التعليم وتوفر الرعاية الصحية وظروف المعيشة .. صحيحٌ أن الدول العربية حققت، في المجمل، نجاحات مشهودة في تقليل حدة الفقر المدقع .. إلا أن كتلة معتبرة من السكان في عدد من الدول العربية لا تزال تتركز حوله .. وقد قامت الأمانة العامة هذا العام، وبالتعاون مع الأمم المتحدة، بإصدار تقرير وافٍ ومدقق حول “الإطار الاستراتيجي العربي للقضاء على الفقر متعدد الأبعاد” .. يتضمن عدداً من التوصيات والأفكار الجديرة بالنظر والاعتبار.
ويُضاف إلى إلحاح المسألة الاجتماعية، ما وقعت فيه بعض دولنا من أزمات أفرزت موجات من اللجوء والنزوح .. ويأوي العالم العربي، مع الأسف، نحو نصف لاجئي ومشردي العالم .. ويكفي أن نعرف أن نحو 4 مليون طفلاً سورياً قد تركوا مدارسهم بسبب الحرب الدائرة هناك منذ سبع سنوات.. يكفي كذلك أن نتابع الأزمات الإنسانية الخطيرة في كل من الصومال واليمن … دون أن يغيب عن أذهاننا أبداً الواقع المأسوي الذي يُكابده يومياً أهلنا في فلسطين بسبب ما يفرضه الاحتلال الإسرائيلي من إغلاق وحصار وممارسات مُجحفة .. يكفي أن نعرف كل هذا لندرك أن معركة التنمية في الكثير من جنبات عالمنا العربي لا تجري في ظروف طبيعية أو في بيئة مواتية، وإنما في ظل أوضاع صعبة وبيئة هشة.
إن المأمول هنا هو إظهار قدر أكبر من التعاضد والتكافل لإسناد ودعم المجتمعات التي تضغط عليها هذه الأزمات الإنسانية، ومن بينها لبنان والأردن اللذان تحملا الكثير وفاء بدين العروبة واضطلاعاً بواجب الإنسانية.
إن تحديات تحقيق التنمية المستدامة تفرض على الحكومات العربية أن تضع المستقبل في حسابها .. علينا أن نواجه الأسئلة الصعبة من دون تباطؤ أو تأجيل.. أسئلة حول توفير الغذاء لأكثر من 360 مليون عربي.. حول الحفاظ على الموارد المائية العربية الشحيحة، التي لا تزيد عن 1% من مصادر المياه العذبة في العالم، وكيفية تنميتها وضمان استدامتها.. أسئلة حول إدارة مزيج الطاقة بالاعتماد بصورة أكبر على المصادر المتجددة.. أسئلة حول الخطط العربية الشاملة لمواجهة الظواهر المربكة على الصعيد العالمي مثل التغير المناخي والتطور التكنولوجي الذي يهدد الوظائف التقليدية..
ثمة نقطة ضوء جديرة بأن أشير إليها.. لقد أوشك التفاوض حول منطقة التجارة الحرة العربية الكبرى على بلوغ غايته، وقد تم الانتهاء من نحو 95% من قواعد المنشأ التفصيلية، والمأمول هو أن تُستكمل هذه المنظومة الاقتصادية التكاملية، بما في ذلك تحرير تجارة الخدمات، في أسرع الآجال .. إذ ليس مقبولاً أن تظل التجارة البينية بين دولنا عند معدلاتها الحالية التي لا تتجاوز 12% من إجمالي تجارة الدول العربية.. وليس مقبولاً أن تظل المنطقة العربية هي الأقل عالمياً من زاوية التكامل الاقتصادي، مع كل الإمكانيات التي يتيحها هذا التكامل للنهوض بالاقتصادات العربية والاسهام في تنويع نشاطاتها .. إن البنود المطروحة على جدول أعمال هذه القمة تتضمن عدداً من المبادرات والمشروعات والبرامج المتعلقة بالتكامل الاقتصادي، ونتطلع جميعاً إلى أن تجد هذه المبادرات طريقها إلى التنفيذ لتقربنا خطوات على سبيل التكامل الاقتصادي العربي.
وبعد .. فإنني إذ أتمنى كل التوفيق لأعمال هذه القمة الهامة، فلا يسعني سوى أن أقول في الختام إن أهلنا في ربوع العالم العربي من أقصاه إلى أقصاه يتطلعون إلى استقرارٍ يبعد عنهم شرور الاضطراب، وإلى نهضة شاملة تأخذهم إلى العصر بتطوراته المتلاحقة، مساهمين لا متفرجين.. ومتفاعلين لا متلقين.. يتطلعون إلى يومٍ يرون فيه أبناءهم وهم يعيشون حياة أفضل من تلك التي عاشوها .. أكثر صحة وأفضل تعليماً وأوسع تمكيناً … ويقيني أن بلادنا قادرة على اللحاق ..وعلى قدر أهل العزم تأتي العزائم.. وعلى الله قصد السبيل”.