أبدى رئيس الجمهورية العماد ميشال عون، تخوفه من وجود ملامح سياسة ترسم لمنطقتنا ستنال منا جميعا في حال نجاحها، وتساءل: “هل ننتظر حدوثها لنعالج النتائج أم نقوم بعمل وقائي لنمنع وقوعها؟”.
واعتبر في كلمة القاها بعد ظهر اليوم أمام القادة العرب في القمة العربية المنعقدة في مدينة الظهران السعودية، ان الحرب الدولية على أرضنا لم تعد بالوكالة، وكل مجريات الأحداث تشير الى أنها تتجه لتصبح بالأصالة، وهي إذا ما اندلعت فعلا فستقضي على ما تبقى من استقرار واقتصاد وحجر وبشر في أوطاننا.
ورأى إزاء ذلك أن الحاجة إلى مبادرة إنقاذ من التشرذم الذي نعيش أصبحت أكثر من ضرورة، متسائلا: “هل تنطلق من أرض المملكة مبادرة عملية رائدة تلم الشمل وتعتمد الحوار سبيلا لحل المشاكل؟”.
واذ لفت الرئيس عون الى أن التجربة اللبنانية قد أثبتت أن الحوار هو الحل، رأى امكان أن تعمم هذه التجربة لتكون نموذجا للدول العربية التي تعاني من صراعات الداخل.
وفي الملف الفلسطيني، شدد رئيس الجمهورية على أن قضية فلسطين هي أساس اللا استقرار في الشرق الأوسط، معتبرا أن “التغاضي الدولي، حتى لا نقول التواطؤ الدولي، عن كل ما قامت وتقوم به إسرائيل، من تدمير وتهجير وسلب حقوق على مدى عقود هو لب المشكلة”.
وإذ حذر من أن القدس توشك أن تضيع رسميا، خلافا لكل القوانين وقرارات مجلس الأمن، سأل: “هل سنسمح للقدس أن تضيع؟”، مشيرا إلى إن المبادرة العربية للسلام التي انبثقت عن اجتماع القمة في بيروت لا تزال المرجعية الوحيدة التي تحظى بإجماع الأشقاء العرب وهو إجماع يمكن البناء عليه لاستئناف المساعي التي تؤدي الى حل شامل وعادل للقضية الفلسطينية”.
وفي الشق اللبناني، لفت الرئيس عون إلى ان لبنان تلقى العدد الأكبر من موجات النزوح السوري الى ارضه بحكم الجغرافيا والجوار، الى حد يفوق قدراته على الاستيعاب والمعالجة، معتبرا أن هذه المشكلة تعنينا جميعا، ولا يجوز أن تتحمل عبئها فقط دول الجوار السوري.
وفي ما يلي، نص كلمة رئيس الجمهورية:
“أصحاب الجلالة والسمو والفخامة والمعالي،
أتوجه بداية بالتهنئة الى خادم الحرمين الشريفين، جلالة الملك سلمان بن عبد العزيز، على ترؤسه القمة العربية في دورتها التاسعة والعشرين، وأتمنى له التوفيق في هذه المسؤولية الجسيمة، خصوصا في المرحلة الدقيقة التي يمر بها وطننا العربي.
كما أعبر عن تقديري لجلالة الملك عبدالله الثاني بن الحسين، وأثني على ما بذله من جهود في رئاسته للقمة العربية السابقة.
أصحاب الجلالة والسمو والفخامة والمعالي،
التقينا منذ قرابة السنة في القمة العربية في الأردن وكانت النار تشتعل في العديد من دول وطننا العربي، والتقينا أيضا في اسطمبول في القمة الإسلامية على وجه السرعة لأن خطرا وجوديا دق أبواب القدس، وها نحن نلتقي اليوم من جديد في القمة العربية التاسعة والعشرين، ومن البديهي أن يكون أول سؤال نطرحه على أنفسنا عما إذا كانت اجتماعاتنا السابقة قد أدت الى بعض الحلول، وكيف هو مآل الأوضاع في أمتنا، وماذا تحقق خلال العام المنصرم.
نار الحروب لا تزال مستعرة، وخطر اندلاع حرب دولية على أرض سوريا يتصاعد، واللا استقرار يخيم على معظم دول المنطقة، والإرهاب يتنقل من بلد لآخر مصطادا الضحايا، والعديد من أبناء شعوبنا هجروا أوطانهم وتشردوا في العالم بحثا عن أمن أو لقمة عيش، كما تشرد قبلهم أبناء فلسطين.
أما لبنان الذي نال نصيبه من الإرهاب، وإن يكن قد تغلب عليه، فإنه لا يزال يحمل تبعات الأزمات المتلاحقة حوله، من الأزمة الاقتصادية العالمية الى الحروب التي طوقته، وصولا الى أزمة النزوح التي قصمت ظهره، وجعلته يغرق بأعداد النازحين، وينوء تحت هذا الحمل الكبير اقتصاديا واجتماعيا وأمنيا؛ فلبنان بحكم الجغرافيا والجوار تلقى العدد الأكبر من موجات النزوح الى حد يفوق قدراته على الاستيعاب والمعالجة؛ فلا مساحته ولا كثافته السكانية ولا بنيته التحتية ولا سوق العمل فيه ولا وضعه الأمني قادرة أن تتأقلم مع هذا الدفق السكاني. وهنا أتوجه الى كل الإخوة المجتمعين لأقول إن مشكلة النزوح السوري هي مشكلة تعنينا جميعا، ولا يجوز أن تتحمل عبئها فقط دول الجوار السوري، بحكم سهولة الانتقال والوصول إليها.
ايها الاخوة،
إن قضية فلسطين تمثل الموقع المتقدم في قلب التطورات، وهي أساس اللا استقرار في الشرق الأوسط. والتغاضي الدولي، حتى لا نقول التواطؤ الدولي، عن كل ما قامت وتقوم به إسرائيل، من تدمير وتهجير وسلب حقوق على مدى عقود هو لب المشكلة. والاعتداءات الاسرائيلية على السيادة اللبنانية تتواصل من دون رادع، وأيضا خرقها للقرار 1701، واستخدامها الأجواء اللبنانية لضرب الداخل السوري، بالإضافة الى تهديداتها المتواصلة بإشعال الحرب.
كذلك في فلسطين، حيث تعتدي اسرائيل وتمعن في التهجير وسلب الحقوق من دون أي إدانة فعلية تردعها. والقضية الفلسطينية، تتآكل وتقضم؛ فمقاومة الاحتلال تتزايد، ولكن الدعم العربي لها ينحسر يوما بعد يوم، والقدس توشك أن تضيع رسميا، بعد وضع اليد عليها على الرغم من الإرادة الدولية الجامعة، وخلافا لكل القوانين وقرارات مجلس الأمن.
إن المبادرة العربية للسلام التي انبثقت عن اجتماع القمة في بيروت لا تزال المرجعية الوحيدة التي تحظى بإجماع الأشقاء العرب وهو إجماع يمكن البناء عليه لاستئناف المساعي التي تؤدي الى حل شامل وعادل للقضية الفلسطينية، حل يحفظ الأرض والهوية، إذ من دونهما لا يقوم وطن ولا شعب.
أيها الإخوة،
هذه المرة أيضا لم آت ناصحا ولا واعظا، ولكن الحل الذي خشيت في العام الماضي أن يفرض علينا، وأن نذهب فرق عملة فيه، بدأ يفرض فعلا، والقدس أول بداياته؛ فهل سنسمح للقدس أن تضيع؟، هل سنقبل بالتهجير الجديد ونقف مكتوفي الأيدي ونحن نرى قدسنا وفيها مسجدنا وكنيستنا تصبح عاصمة لإسرائيل؟، هل نتهرب من المواجهة ونرمي المسؤولية على الغير، لاسيما وأن في الأفق ملامح سياسة ترسم لمنطقتنا وهي، إن نجحت، ستنال منا جميعا، فهل ننتظر حدوثها لنعالج النتائج أم نقوم بعمل وقائي لنمنع وقوعها؟.
ان الحرب الدولية على أرضنا لم تعد بالوكالة، وكل مجريات الأحداث تشير الى أنها تتجه لتصبح بالأصالة، وهي إذا ما اندلعت فعلا فستقضي على ما تبقى من استقرار واقتصاد وحجر وبشر في أوطاننا، فهل سنسمح أن تكون أرضنا مسرحا لحروب الآخرين؟، هل سنقف مكتوفي الأيدي ونترك أوطاننا تدمر وشعوبنا تذبح؟.
إن السياسة في مفهومها الكبير هي التلاقي مع الحدث والتأثير فيه، لا محاولة اللحاق به وتحمل نتائجه وتبعاته، والكلام لم يعد مجديا إن لم يقترن بالعمل والتنفيذ؛ فنحن في سباق مع الوقت، وكل تأخير يرتب علينا خسائر جديدة ويزيدنا ضعفا، ولا يمكن لأي موقف لنا أن يكون فاعلا ويؤثر في مجريات الأحداث ما لم يكن محصنا بوحدتنا الفعلية، وما لم نكن جميعا داعمين له بالقول والفعل، لذلك فإن الحاجة الى مبادرة إنقاذ من التشرذم الذي نعيش أصبحت أكثر من ضرورة.
ايها الاخوة،
نحن اليوم على أرض المملكة، ومن يقدر على جمع العائلة أكثر من كبارها؟، فهل تنطلق من هنا مبادرة عملية رائدة تلم الشمل وتعتمد الحوار سبيلا لحل المشاكل، وتجعل من المادة الثامنة من ميثاق جامعتنا عهدا ملزما يفرض على كل دولة منا أن تحترم فعلا نظام الحكم في الدول العربية الاخرى ولا تقوم بأي عمل يرمي الى تغييره؟، إذ بعد العاصفة التي ضربت منطقتنا، لا بد من إرساء رؤية مستقبلية عنوانها المصارحة والتضامن الحقيقي الذي لا خلاص لنا من دونه.
إن المجتمع اللبناني هو نقيض العنصرية والأحادية، وهو نموذج لعيش الوحدة ضمن التعددية والتنوع، والتجربة اللبنانية قد أثبتت أن الحوار هو الحل؛ فعلى الرغم من كل الاختلافات السياسية والتصاريح النارية ظلت وحدتنا الوطنية هي السقف. وعلى الرغم من كل الغليان حولنا ظل لبنان قادرا على منع انتقال الشرارة اليه، ذلك ان اللبنانيين تعلموا من تجارب الماضي وصاروا يعرفون جيدا أن الحرب الداخلية لا تحل مشكلة، وأن لا رابح فيها بل الجميع خاسرون، والحل لا يكون إلا باللقاء والمصارحة والحوار واحترام مخاوف الآخر وهواجسه وأخذها بالاعتبار. وهذه التجربة يمكن أن تعمم لتكون نموذجا للدول العربية التي تعاني من صراعات الداخل؛ فالإنسان لا يهزم إلا من داخله، وكذلك الأوطان. واذا ما كانت هناك من أخطار محدقة، فاتحادنا أو على الأقل تعاوننا قادر أن يحمينا، ولنضع نصب اعيننا مستقبل الأجيال المقبلة، مستقبل أولادنا وأحفادنا، فهم غد أمتنا وأملها، فلنعمل جاهدين كي لا يعيشوا ما عشناه وهذه مسؤوليتنا. ولدينا كل المقومات والمعطيات لنخرق هذا الواقع المؤلم ونطل على غد مشرق مزدهر ومستقر وأكثر عدالة، فنكون وطنا عربيا كبيرا يغتني بتعدديته ويقوى بمكوناته وتنوعه، بدل أن نبقى أوطانا مبعثرة يسود في ما بينها الشك والحذر ويسهل استفرادها وضربها.
أيها الإخوة،
الأخطار كثيرة، والتحديات كبيرة، ومسؤوليتنا جسيمة، ويبقى أن نختار ما بين المواجهة والرضوخ.
والسلام عليكم” .
ثم توجه الرئيس عون الى رئيس القمة والقادة العرب قائلا: “يسعدني ان تستضيف الجمهورية اللبنانية اعمال الدورة الرابعة للقمة العربية التنموية الاقتصادية والاجتماعية في العام المقبل في بيروت، فتحلون في ربوع وطنكم الثاني وبين اهلكم الذين يستعدون لاستقبالكم بكل حفاوة وترحيب كما درجت العادة.
ان لبنان الذي كان من الدول المؤسسة لجامعة الدول العربية يتطلع دائما الى ان تكون ارضه مساحة تلاق وتضامن ووحدة يتعزز فيها العمل العربي المشترك لما فيه مصلحة دولنا وشعوبنا الشقيقة. وعلى امل اللقاء بكم في بيروت العام المقبل، اتمنى لكم دوام النجاح والتوفيق ولدولكم الشقيقة التقدم والازدهار”.
وكان رئيس الجمهورية قد وصل عند الثانية من بعد ظهر اليوم الى مركز الملك عبد العزيز الثقافي العالمي حيث تنعقد القمة، واستقبله عند المدخل خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز. وبعدما صافحه، انضم الى قادة الدول العربية لالتقاط الصورة التذكارية، قبل الدخول الى قاعة القمة التي افتتحت اعمالها قرابة الثانية والنصف من بعد الظهر.