منذ عام 1997، تسعى إستونيا، التي يبلغ تعداد سكانها مليون و300 ألف نسمة، جاهدة لتنفيذ إحدى الأفكار الكبرى، وهي تحويل الخدمات الحكومية بأكملها إلى خدمات إلكترونية.
هل هذه الفكرة جديرة بأن تكون من الأفكار الكبرى التي ستفيد العالم أم إنها مجرد فكرة معقدة؟
من منا لم يقف في طوابير طويلة في أحد المباني الحكومية، منتظرا لساعات من أجل تعبئة مئات الاستمارات في مصلحة الضرائب، أو إدارة تسجيل وترخيص المركبات.
فكيف نشغل أنفسنا ونحن نمضي ساعات الانتظار المملة تلك لإنجاز مهام ثقيلة على النفس؟ أغلب الظن أنك ستتصفح الإنترنت على هاتفك الذكي، سواء لقراءة الرسائل على البريد الإلكتروني، أو مطالعة الصور على موقع إنستغرام، أو ربما تعبر عن مدى الضجر الذي يعبر عن حالك في تغريدة على موقع تويتر.
لكن لماذا لا نملأ هذه الاستمارات أو ننجز الإجراءات البيروقراطية المشابهة عبر الهاتف الذكي؟
في عام 2017، استغنت بعض البلدان تماما عن النقود في تعاملاتها المالية، وأنتجت بعض الشركات أجهزة تقنية لا تُفتح إلا ببصمة الإصبع، وأصبح بإمكاننا إجراء محادثات مرئية عبر أجهزة محمولة، فلماذا لم نتمكن بعد من إنجاز جميع المهام ذات الصلة بالمصالح الحكومية عبر الإنترنت، في مكان واحد وفي نفس الوقت؟
لقد أصبح هذا الأمر ممكنا في إستونيا، إحدى دول البلطيق صغيرة المساحة، والتي يبلغ تعداد سكانها مليون و300 ألف نسمة، وتقع في الركن الشمالي الشرقي لأوروبا.
ومنذ تسعينيات القرن الماضي، وضعت إستونيا، التي انطلق من أراضيها برنامج “سكايب”، نصب عينيها بناء مجتمع رقمي كامل.
وقالل خبراء من شتى أنحاء العالم إن جهود الحكومة الإستونية لنقل جميع خدماتها إلى منصة واحدة عبر الإنترنت بنجاح وسلاسة، في إطار مبادرة “إي إستونيا” (أو إستونيا الرقمية)، تعد نموذجا ناجحا يحتذى به عالميا.
وبحسب موقع “إي إستونيا” يهدف البرنامج إلى “تطوير دولة رقمية”. ودُشن البرنامج في عام 1997، ويتيح للمواطنين إيداع إقراراتهم الضريبية عبر الإنترنت منذ عام 2000، ويستخدم هذه الخدمة 95 في المئة من المواطنين هناك.
كما يستطيع سكان إستونيا من خلال هذا البرنامج الحصول على الوصفات الطبية ونتائج التحاليل وتوقيع المستندات والتصويت عبر الإنترنت، ويتيح أيضا للأجانب التقدم بطلب للحصول على الإقامة الرقمية عبر الإنترنت.
وقد نسجت دول أخرى على منوال إستونيا، مثل فنلندا واليابان وقبرص، سواء بالاستعانة بشركات إستونية لإنشاء منصات ضرائب رقمية مماثلة، أو بإقامة أنظمة تحاكي نظام بطاقة الهوية الإستوني، الذي يخصص لكل مواطن رقم هوية يمكن استخدامه في الكثير من الأغراض، من الضمان الاجتماعي إلى التصويت والاستجابة للكوارث.
قال داريل ويست، نائب رئيس ومدير دراسات الحوكمة في معهد بروكينغز للأبحاث في العاصمة الأمريكية واشنطن: “حققت إستونيا تقدما يفوق ما حققته أي دولة أخرى في هذا المجال“.
كما أفاد البرنامج إستونيا أيضا من خلال خلق فرص عمل في المجال التقني. وقالت بيبرال إن مبادرة “إستونيا الرقمية”، كشأن أي صناعة جديدة، تسهم في توظيف الكثير من التقنيين لدعم النظام.
هذا وأشاد عدد من الخبراء في مجال الحوكمة والإنترنت ببرنامج “إستونيا الرقمية”، ووصفوه بأنه برنامج رائد سيعبّد الطريق لغيره من البرامج.
كما قالت هيلين مارغيتس، أستاذة المجتمع والإنترنت بجامعة أكسفورد ومديرة معهد أكسفورد للإنترنت: “إنه نموذج لافت، لأن الحكومة الإستونية بدأت في تطبيق نظام المجتمع الرقمي قبل غيرها بمراحل“.
وتابعت: “بعد نيل إستونيا إستقلالها عن الاتحاد السوفيتي عام 1991، قررت إلغاء جميع الأنظمة القديمة التي وضعها الاتحاد السوفيتي والبدء من الصفر، ولكن من دون ورق. ووقع اختيارها على حل أكثر تنظيما وسلاسة وطبقته الحكومة الإستونية قبل سائر الحكومات“.
وفي عام 2014، أجرى باحثون من جامعة ميشيغان دراسة عددوا فيها “المخاطر الأمنية الكبرى التي تواجه نظام التصويت عبر الإنترنت في إستونيا” وأوصوا “بإلغائه على الفور“.
لكن مبادرة “إستونيا الرقمية” تقول إن نظام التصويت محمي بتدابير أمنية لضمان نزاهة عملية التصويت، من بينها على سبيل المثال بطاقات الهوية التي تصدرها الحكومة لكل مواطن على حدة، وتتيح له الدخول إلى جميع الخدمات المتوفرة عبر الإنترنت، مثل الخدمات المصرفية أو التصويت الإلكتروني.
وقالت المبادرة على صفحتها على الإنترنت إنها طورت تقنية “بلوك تشين” أو سلسلة سجلات المعاملات السابقة لضمان “معاقبة كل من يتجرأ على التلاعب بالبيانات المسجلة لديها، سواء أكان قرصان إنترنت أو مشغل أنظمة الكمبيوتر أو حتى حكومات“.
وتعطلت على إثرها خوادم البنوك وتوقفت أجهزة الصراف الآلي. وفي خضم الفوضى التي سادت البلاد، لم تتمكن الصحف من مواكبة الأحداث، وتعطلت مواقع الأخبار على الإنترنت.
وصف ويست الهجوم الإلكتروني الروسي عام 2007 بأنه “أحدث تخريبا وأوقع خسائر تعادل ما يوقعه القصف الجوي الذي يستهدف البنى التحتية من دمار، مما أدى إلى إصابة حياة المواطنين بالشلل التام“.
ولكن حتى لو افترضنا أن مزايا الحكومة الإلكترونية تفوق مخاطرها، فهل من الممكن تطبيق النموذج الإستوني في مكان آخر من العالم، وهل هو ضروري؟ وكيف تمكنت إستونيا من تنفيذه؟
قال الخبراء إن إستونيا وضعت برنامج الحكومة الإلكترونية ضمن قائمة أولوياتها، ونفذته في النهاية. لكن هذا البرنامج قد لا يكون قابلا للتوسع في جميع الأحوال، لأن إستونيا دولة صغيرة نسبيا، ويتجاوز تعداد سكانها مليون و300 ألف نسمة بقليل، وتعادل مساحتها مساحة بلجيكا أو ولاية ويست فيرجينيا.
ورغم ذلك تشير مارغيتس إلى أن “موقع فيسبوك لديه ملياري مستخدم، ولا يجد المسؤولون عن الموقع مشقة في إدارة حسابات المستخدمين“.
أضف إلى هذا أن مقارنة إستونيا بالدول الغربية الأكبر مساحة، مثل المملكة المتحدة أو الولايات المتحدة الأميركية، هي مقارنة في غير محلها، لأن الحكومتين البريطانية والأمريكية على سبيل المثال، أكثر تعقيدا وتشابكا من حكومة إستونيا، ولديهما آلاف الإدارات وعدد لا يحصى من القوانين التي قد تتغير من منطقة لأخرى، أو مدينة لأخرى داخل البلد الواحد.
ناهيك عن أن الدولة كلما زادت مساحتها، تعذر إقامة مجتمع رقمي واحد يوفر جميع الخدمات فيها، مثل مشروع “إستونيا الرقمية”. وفي بعض البلدان الكبيرة، قد يتحدث المواطنون لغات مختلفة، وهذا يزيد الأمور تعقيدا. فمن السهل تحديث الخدمات وزيادة كفاءتها مادام البلد صغيرا والمجتمع متجانسا.
ولو نظرنا إلى دائرة الإيرادات الداخلية الأمريكية أو مصلحة الإيرادات والجمارك البريطانية، تقول ماغيتس: “هاتان المؤسستان كبيرتان للغاية ولم يعد من الممكن أن توجههما وحدة صغيرة. وهذا ينطبق على الحكومات الكبيرة، ولا سيما إن كان لديها الكثير من الأنظمة التي عفا عليها الزمن“.
لكن برنامج الحكومة الإلكترونية، إذا تمكنت الدول من تنفيذه بنجاح، سيوفر علينا الساعات الطويلة التي نضيعها في مبان حكومية خالية من النوافذ، وسيجنبا إنفعال الموظفين المجهدين علينا بعد يوم مثقل بالمهام.
وعلى الرغم من زيادة الهجمات والحروب الإلكترونية في العالم وانتشار التجسس بين الدول وبعضها، يبدو أن الجهود الحثيثة الرامية إلى هيمنة الإنترنت على كل أنشطة حياتنا اليومية، لن تتوقف قريبا.
فيبدو أن المستقبل للخدمات الرقمية، وقال الخبراء إن هناك الكثير من الدلائل التي تشير إلى أن الحكومة ستدار في نهاية المطاف عبر الإنترنت أيضا. ولهذا فإن هذه الفكرة مرشحة