قطعت قضية التنسيق مع سوريا ضد الإرهاب ولإعادة النازحين، ورغبة بعض الوزراء في حضور مؤتمرات في دمشق، آخر شعرة بين التيار الوطني الحر والقوات اللبنانية. فالحزبان اللذان تعاهدا على عدم «نبش القبور» مهما بلغت التحديات والتباينات، يتقاذفان «الجثث» اليوم على مواقع التواصل الاجتماعي، فيما رئيساهما يتسابقان على دفن تحالفهما الانتخابي في مختلف الدوائر.
كان الحزبان «المتفاهمان» يصفان بـ«التفاصيل» خلافاتهما حول خطة الكهرباء، ومشاريع في وزارة الصحة، وتشويه القوات لصورة التيار عبر اتهامه ــ وإن بصورة غير مباشرة ــ بالفساد، وتناقض مواقفهما في أكثر من استحقاق، آخرها ملف تمويل «اتحاد كرة السلة»! لكن الاشتباك وصل أخيراً إلى بندين استراتيجيين: النظرة إلى دور حزب الله والعلاقة مع سوريا، فعاد الانقسام في البلاد إلى ما كان عليه قبل الانتخابات الرئاسية. وفي هذا السياق، يضع التيار الوطني الحر على رأس أولوياته ملف إعادة النازحين السوريين إلى بلادهم عبر التواصل مع حكومة دمشق. أما القوات فترفض ذلك، متبنّية موقف «المجتمع الدولي» الذي لطالما أكد رئيس التيار الوزير جبران باسيل أنه يريد إبقاء النازحين في لبنان. وهذان البندان، أي العلاقة مع سوريا ودور حزب الله، سيشكلان الشعار الذي سيخوض به سمير جعجع الانتخابات النيابية… ضد التيار الوطني الحر
يوم أمس أيضاً، استفاق وزير الاعلام ملحم رياشي وأمين سر تكتل التغيير والاصلاح النائب ابراهيم كنعان على «مصيبة» جديدة. اعتقد الرجلان لوهلة أن المشكلات ستنتهي بورقة نوايا مشتركة وأغنية وصورة جميلة لخصمَي الأمس، الا أن شهر العسل وقف عند عتبة قصر بعبدا لتبدأ الخلافات من يومها: يوم على الكهرباء وآخر على التعيينات وثالث على ادارة تلفزيون لبنان ورابع على ملف المستشفيات وخامس على النازحين السوريين وسادس على معركة عرسال وسابع على لافتات ترحّب برئيس الجمهورية في دير القمر… الى أن «ولعت» يوم أمس بين حزبَي التيار الوطني الحر والقوات اللبنانية نهائياً. هرع عرّابا الاتفاق لتنفيس الاحتقان وصون ما تبقى من اتفاقهما، فيما جمهورا الطرفين يشتم بعضهم بعضاً تحت هاشتاغ «أوعا خيّك»، لتتحول عند البعض الى لعنات وشتائم. تزامن ذلك مع إجابة النائب ألان عون عن سؤال في نهاية حلقته على شاشة «أم تي في» عمّن يختار، لجهة القرب السياسي، بين عدة شخصيات سياسية، ومنها محمد رعد وسمير جعجع، فأجاب: محمد رعد.
هكذا اشتعلت مواقع التواصل الاجتماعي بين العونيين والقواتيين الى أقصى الحدود وأكثرها وضوحاً منذ تاريخ توقيع ورقة النوايا بينهما. في الظاهر، القشة كانت رفض رئيس حزب القوات اللبنانية التنسيق مع سوريا لدحر الارهاب وإعادة النازحين، وعقده مؤتمرين متتاليين لهذا الغرض، سائلاً الوزير الذي سيزور سوريا: «كم جثة ستجلب معك؟». سؤال كان بمثابة تلاوة فعل ندامة للخارج عن موقف الأمس القريب الإيجابي تجاه حزب الله، وكان كافياً لبدء العونيين بنبش قبور جثث جعجع أيام الحرب الأهلية، أو «الجثث التي لم ترقد في قبورها حتى الساعة بسببه». والحملة البرتقالية هنا بدأت من مسؤولين عونيين وإعلاميين في محطة «أو تي في» وغيرهم من الشخصيات المقرّبة من باسيل، والتي يصعب وضعها في خانة «العفوية».
أما اختيار الملف السوري بالذات، فيستوجب التوقف عنده، بحسب مصادر سياسية «وسطية». فسياسياً، يعطي عون ومن ورائه باسيل هامشاً كبيراً للخلافات الداخلية. جلسات مجلس الوزراء تشهد على ذلك. ولكن عندما يتعلق الأمر بالاستراتيجيات، فعون ومن ورائه باسيل، أيضاً، ثابتان في الوقوف إلى جانب المقاومة والعلاقة مع سوريا. والموقف هذا يعبّر عن انسجامهما مع نفسيهما، إذ لم يتغيّر موقفهما الرسمي فعلياً منذ خط ورقة التفاهم مع الحزب قبيل 11 عاماً. وفي حين كان عون من أول المنادين بإعادة سوريا الى الجامعة العربية والانفتاح عليها، بقي رأي جبران غير معلن، رغم كونه المعنيّ الأول بهذا الملف لشغله منصب وزارة الخارجية. لكن «الإجماع» أخيراً ما بين التيار الوطني الحر وحزب الله من جهة والحزب وحركة أمل من جهة أخرى على ضرورة إعادة العلاقات الرسمية مع سوريا ومخاطر إبقاء الوضع على ما هو عليه، حتّم على رئيس التيار البوح بما لم يكن سرّاً أصلاً ولا طيّ الكتمان، الأمر الذي أجّج الخلاف بين وزراء التيار والقوات في الجلسة الخيرة لمجلس الوزراء حيث ردّ باسيل على رفض القوات التنسيق مع الدولة السورية وزيارة وزراء لها بتكليف حكومي، بالاشارة الى تعيين سفير للبنان في دمشق منذ أقل من شهر ووضع زيارة وزير الاقتصاد رائد خوري على جدول الاعمال. رغم ذلك، آثر جعجع دفن رأسه في رمال زحلة يوم أمس عبر حديثه عن «وسطية ميشال عون في ما يخصّ الامور الاستراتيجية وموضوع زيارة الوزراء الى سوريا» و«حيادية وزراء التيار» في ما خصّ هذا الملف، بمعنى أنهم «لا مع ولا ضد»!
وكان النقاش الوزاري قد احتدم أصلاّ على عدة ملفات، منها اعتراض باسيل على منح اتحاد كرة السلة مليون دولار، وتعيير وزير الصحة غسان حاصباني له بمخصّصات مستشفى البترون. أعقبت ذلك مقابلة أجرتها «أو تي في» مع السفير السوري في لبنان علي عبد الكريم علي، وهجوم عنيف بين جمهوري الفريقين على مواقع التواصل الاجتماعي. وبدا جلياً أمس أن التفاهم الذي كان من المفترض أن يخضع لضوابط، يسقط عند أول احتكاك وزاري أو انتخابي، رغم اتفاق الطرفين على عدم نبش القبور، ولا العودة الى الوراء، مهما اشتدت التحديات.
في هذا السياق، يقول النائب ألان عون لـ«الأخبار» إن «التباينات موجودة. فلسنا متفقين على كل شيء، إلا أن الجرة لم تنكسر… هناك إجماع على عدم عودة الأمور الى الوراء». رأي عون هنا يتناقض مع ما يصدر عن وزراء الطرفين وجمهوريهما، إذ إن الخلاف قد وقع على جميع المستويات، ولا قضية سياسية أو خدماتية أو انتخابية تجمع ما بين التيار الوطني الحر والقوات، أكان في شأن سلاح حزب الله أم العلاقات الخارجية مع الدول أم العمل البلدي أم المرشحين الى الانتخابات النيابية أم طريقة معالجة الملفات الملحة من الكهرباء الى التعيينات الادارية والدبلوماسية، حتى إنه كان للرياضة حصتها من «النكايات» المتبادلة؛ فقرار الحكومة مساعدة اتحاد كرة السلة بمبلغ مليون دولار عارضه وزيران فقط: جبران باسيل ورائد خوري. (في اليوم التالي، جرى توقيع عقد شراكة بين اتحاد «السلة» الذي يعارضه باسيل، وشركة «سانيتا» التي يملكها رجل الاعمال نعمت افرام، الذي وضع نفسه في كسروان في خانة حلفاء القوات).
سؤال مصادر القوات عمّا سبق يتلخص بإجابة وحيدة على كل الصعد: «فجع جبران باسيل ورغبته في أكل أخضر الحكومة ويابسها سبب كل الأزمات». وقبل أيام، قال وزير عوني لنواب من فريق 8 آذار إن «باسيل في السلطة يشبه السياسيين الشيعة في العراق بعد سقوط صدام حسين».
أما خلاصة كل ما سبق فتبشّر بثابتة واحدة، وهي أن موسم الانتخابات قد بدأ فعلياً، وكان يستلزم هزة قوية للتبشير بفرط عقد التحالف بين التيار الوطني الحر والقوات، وبالتالي نعي الملف الذي كان يفترض أن يرمّم العلاقة بين الحزبين ويجمعهما حول استحقاق معين.
ويوم أمس كان جعجع واضحاً في دفن ورقة النوايا من زحلة، حيث قال إن «في النظام الانتخابي الجديد لا لزوم للتحالفات، فالتيار والقوات متفاهمان، ولكن قد تكون مصلحتهما أن يكون كل واحد منهما في لائحة». أما الفراق الانتخابي فكان قد بدأ قبيل يوم أمس بالطبع، مع حسم القوات اعتماد مرشح في وجه باسيل في قضاء البترون، وسعيها للتفاهم مع المردة في تلك الدائرة لمواجهة التيار البرتقالي. أتى ردّ التيار سريعاً بحسم هوية شاغل المقعد الكاثوليكي في المتن الشمالي، لقطع الطريق على طموح وزير الإعلام ملحم رياشي، لتفتح بعدها أبواب «النكاية» على مصاريعها، حيث عمدت معراب الى تبنّي ترشيح رئيس بلدية جبيل زياد حواط في الدائرة التي يعدّها التيار «معقله»، في ما عدا الخصومة مع حواط التي استدعت تشكيل العونيين بلدية ظل في موازاة البلدية التي كان يرأسها. تلى ذلك توجّه باسيل الى إحدى أهم الدوائر لدى معراب، زحلة، ليتبنّى فيها مرشحاً إضافياً الى جانب مرشحه الماروني المعتمد (سليم عون)، وهو المرشح عن المقعد الكاثوليكي ميشال ضاهر، وسط مقاطعة قواتية لهذه الزيارة. وما على الراغب فعلياً في بروفا انتخابية مصغّرة عمّا سيحصل في الأشهر القليلة المقبلة مع اقتراب موعد الانتخابات النيابية بين التيار والقوات، سوى النظر الى ما أحدثته، بين جمهورَي الحزبين، لافتات عونية مرحّبة برئيس الجمهورية في بلدة دير القمر. فلولا وقوف رئيس الحزب الاشتراكي وليد جنبلاط على الحياد، وتغيّبه عن قداس عيد سيدة التلة الذي حضره الرئيس عون، كما عن ذكرى المصالحة التي نظّمها (جنبلاط) بنفسه مع القوات، وقاطعها التيار، كان من الممكن أن يشهد الشوف «حرب جبل»، سياسية طبعاً، جديدة… لكن هذه المرة بين عرابَي اتفاق «أوعا خيّك».